عبادة الصيام فرصة نادرة وممتازة لتقوى الله عز وجل
باسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من المعلوم أن الغاية من الدين الإسلامي بعباداته ومعاملاته هي تقوى الله عز وجل . والتقوى إنما هي طاعة المخلوق للخالق سبحانه فيما شرع سواء تعلق الأمر بالعبادات أم بالمعاملات ، وهي طاعة فيما أمر وفيما نهى مع الخوف من عقابه في حال مخالفة أمره ، والرجاء في جزائه في حال طاعة أمره. وبالرجوع إلى حديث القرآن الكريم عن عبادة الصيام نجد تنصيصا صريحا بالغاية من ورائه ، وهي التقوى في سياق الحديث عنها في آيات سابقة لآية الصيام والمتعلقة بمعاملتين هما القصاص ، والوصية قبل الحديث عن الصيام كعبادة ترتبط بهاتين المعاملتين فيما يخص موضوع التقوى. يقول الله عز وجل : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) ففي هذه الآية الكريمة بعد تخصيص الفئة المؤمنة بالنداء ، وذكر فرض عبادة الصيام عليها كغيرها من الأمم السابقة جاء ذكر الغاية من هذه العبادة وهي تقوى الله عز وجل مع تحديد مدة العبادة ، ومدة التقوى أيضا في أيام معدودات مما يعني أن الفرصة نادرة وممتازة لممارسة التقوى في أقوى أشكالها . وقبل ذكر الغاية من عبادة الصيام في هذه الآية نقرأ في كتاب الله عز وجل مباشرة قبل آية الصيام قوله عز من قائل : (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) كما نقرأ قوله عز من قائل : (( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين )) فالآيتان معا تتعلقان بمعاملتين هما : معاملة القصاص ، ومعاملة الوصية ، وفي سياق الحديث عنهما يذكر الله عز وجل أن الغاية من ورائهما هي تقوى الله عز وجل ، ذلك أنه سبحانه أمر بمعاملة القصاص التي جعل فيها الحياة أو جعل الحياة تقوم عليها ، وأمر بالوصية التي جعل فيها المعروف بين الناس. فمعاملة القصاص فيها صيانة للحياة ، ذلك أن قتل القاتل يمنع الجميع من التفكير في القتل ، وتصان بذلك الحياة ، كما أن العفو على القاتل وقبول الدية منه بعد الصلح مع أهل القتيل فيه أيضا صيانة للحياة . فمن مارس القصاص صان الحياة ، ومن قبل الدية صانها أيضا ، ولكن من تخلى عن القصاص أو مارس القصاص بعد الاستفادة من الدية، فإنه يعرض الحياة للخطر لهذا أمر الله تعالى بالتقوى في هذه المعاملة القضائية ، وهي الخوف من مخالفة أمره فيها . ومعاملة الوصية فيها صيانة لعلاقة القرابة وللحمتها ، ذلك أن الموصي لا يستثني القرابة غير الوارثة من ماله صيانة للمودة التي قد تتأثر في حال تعطيل معاملة الوصية . فالموصي يصون القرابة إذا ما التزم أمر الخالق في الوصية بما لا يزيد عن ثلث أو ربع التركية . وهو يعرض آصرة القرابة للتفكك والضياع إذا ما عطل هذه المعاملة أصلا ، أو بالغ فيها على حساب حقوق الورثة ، لهذا اشترط الله تعالى التقوى في هذه المعاملة الاقتصادية وهي الخوف من مخالفة أمره فيها . وفي سياق الحديث عن هاتين المعاملتين، وعلاقتهما بتقوى الله عز وجل ، جاء الحديث عن نفس التقوى في عبادة الصيام . وقد جاء الحديث عن تقوى الصيام في صيغة ترج مسبوق بحرف لعل المشبه بالفعل الذي يفيد التوقع ويختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله (( لعلكم تتقون )) وهو في سياق الآية الكريمة ترج لأمر محبوب ، ذلك أن الله عز وجل يرجو التقوى من عبادة المؤمنين من خلال ممارسة عبادة الصيام . وطبيعة عبادة الصيام أنها ترتبط بإدارة الإنسان الحرة والعازمة والجازمة ، ذلك أن هذه العبادة تمكن الإنسان من قياس قدرته على التحكم في جسده وفي شهوات هذا الجسد الجامحة والملحة . وتختلف عبادة الصيام عن غيرها من العبادات بخلوها من مظاهر تدل عليها كما هو حال باقي العبادات التي يطلع عليها الناس ، في حين تبقى عبادة الصيام سرا بين الخالق سبحانه والمخلوقين ، وهي بذلك عبادة خالية من مظاهر الرياء ، وعبادة إخلاص بامتياز. وبممارسة هذه العبادة القلبية المتحكمة في حاجات الجسد واحتمال ضغوطاته الملحة يحقق الإنسان إرادته لأنه يتحرر من أصعب الغرائز والشهوات. وعند التأمل نجد كل الخطايا أو المعاصي التي يقع فيها الإنسان إنما تعود إلى إلحاح شهوتي البطن والفرج . فالقاتل أو سافك الدم قد يفعل ذلك من أجل إشباع إحدى الشهوتين ، وكذلك السارق ، والمرتشي والمرابي ، والكاذب وشاهد الزور… وغيرهم ، لهذا فأصل الخطايا هو الخضوع لشهوتي البطن والفرج ، لهذا اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون عبادة الصيام تدريبا للإنسان على التحكم في مصدر الحث على الخطايا والمعاصي ، ولهذا كان الصيام فرصة ممتازة لتقوى الله عز وجل في أيام معدودات ، لأن الممسك عن شهوتي البطن والفرج يكون أبعد من المفطر الخاضع لإغراءات الشهوتين عن ولوج دائرة الخطايا والآثام . ودرجة التقوى إنما تقاس بدرجة تحمل المشقة في دين الإسلام ، وعبادة الصيام مدخل لتحمل المشاق ، لهذا ليس من قبيل الصدف أن يفرض الصيام في السنة الثانية للهجرة ، وبعده يفرض الجهاد ، وهو مجال مشاق كبرى ، وكأن الله عز وجل درب المؤمنين على مشقة الصيام من أجل تأهليهم لمشاق الجهاد الذي بواسطته تصل دعوة الإسلام إلى كل العالم بواسطة أمة الإسلام الشاهدة على الأمم والقوامة عليها. وطاعة الصيام كممارسة لتقوى الله عز وجل تعتبر في نفس الوقت طريقة شكر لنعم الله عز وجل التي لا يحصيها عد بله يكافؤها شكر. وشكر النعم إنما يكون بحسن استعمالها فيما يرضي الخالق سبحانه ، ولا يقتصر على شكر اللسان الذي قد ينقضه جحود أو كفران الفعل ، فكم من شاكر باللسان كافر بالفعال وما شكره بالشكر المطلوب . وليس من قبيل الصدف أيضا أن يرجو الله عز وجل الشكر من المؤمنين في سياق الحديث عن طاعة الصيام في قوله عز من قائل : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )) فالله تعالى يرجو شكر عباده المؤمنين نعمة الهداية التي تفضل سبحانه بها عليهم وعلى الناس كافة ، وما الهداية سوى نعمة القرآن الكريم المنزل في شهر رمضان ، والصوم صيغة من صيغ شكر هذه النعمة التي لا مثيل لهذا ، وهو شكر ممارسة التحكم في شهوتي البطن والفرج لا مجرد شكر تلفظ باللسان . ويقابل أسلوب الشكر بالصيام نهارا أسلوب الشكر باستعراض القرآن ليلا ، وهو ليس مجرد استعراض لذاته بل لغرض عرض الأنفس عليه وهو الهدى لقياس المسافة التي تفصل هذه الأنفس عن الهداية ، ذلك أن المؤمنين وهم في صلاة التراويح يعرضون أنفسهم على ما يسمعون من أوامر الله عز وجل ونواهيه لمعرفة مدى التزامهم بها ، ومدى شكر نعمة الهداية عن طريق الممارسة الفعلية لا عن طريق الادعاء الشفهي . ومما يؤكد ممارسة التقوى بامتياز في رمضان من خلال أساليب شكر نعمة القرآن الكريم قرب الممارسين لعبادة الصيام والقيام من خالقهم ، وهو ما أكده سبحانه في معرض حديثه عن عبادة الصيام ومباشرة بعد رجائه الشكر من عباده على نعمة القرآن إذ يقول : (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) ، وهذا كلام توضحه سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في قوله : » للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة » أو قوله : » إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد » فاستجابة عباد الله المؤمنين لربهم هي عبادة أو طاعة الصيام ، وجزاء هذه الاستجابة هي استجابة إلهية مقابلة لدعواتهم لأن الله تعالى يكون أقرب ما يكون من عباده وهم في وضعيات العبادة أو الطاعة سواء في سجود الصلاة أو عند انتهاء طاعة الصيام . وقد يغفل الغافلون عن هذا القرب الإلهي منهم في حالة طاعة الصيام ، ويزهدون في الدعاء أو يستعجلون الاستجابة فتضيع منهم فرص الاستجابة لقوله صلى الله عليه وسلم : » لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل » فقيل يا رسول الله : وما الاستعجال ؟ قال : » يقول قد دعوت ، وقد دعوت فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء » والذي يدع الدعاء في حكم الزاهد في رعاية الله له ، وهو هالك لا محالة إذا ما أغفلته رعاية الله عز وجل الذي علمنا أن ندعوه في كتابة الكريم ، وعلى رأس الأدعية التي علمنا قوله تعالى في فاتحة الكتاب التي لا تصح الصلاة إلا بها (( اهدنا الصراط المستقيم )) فبدون هداية لا يستقيم أمر من أمورنا في عاجل أو آجل . وأخيرا مما يؤكد أن عبادة الصيام هي فرصة تقوى الله عز وجل بامتياز قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : » إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين » فصيغت التكثير في فعلي » فتحت » و » غلقت » ـ بتشديد التاء في الأول واللام في الثاني ـ تدل على أن عبادة الصيام هي عبارة عن إقبال على فعل الخيرات وترك المنكرات ، والمترتب ضرورة عن ذلك زيادة فتح أبواب الجنة ، وزيادة إغلاق أبواب النار ، وزيادة تصفيد الشياطين ، وليس كما فهم أحدهم ـ غفر الله له ـ وهو يسخر من هذا الحديث بأن الجنة تظل مغلقة خلال السنة وإنما تفتح في رمضان كما تقلى الزلابية أو الشباكية في رمضان ، وكما تعد البرامج التلفزية التافهة فيه . ومما يؤكد أيضا أن عبادة الصيام هي ممارسة بامتياز لتقوى الله عز وجل الجزاء المقابل لها كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم » من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » ولا يغفر الذنب المتقدم إلا إذا كانت ممارسة التقوى بامتياز في أيام معدودات ، وهي فرصة نادرة بحكم عدد أيامها. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire