لن تكون منظومتنا التربوية بخير حتى يقبل المسؤولون عنها النقد والنصح بصدور رحبة
عاب علي بعض الفضلاء من المنتمين إلى الحقل التربوي المقالات التي تتناول قضايا المنظومة التربوية بالنقد ، واعتبر بعضهم أن نقد من لهم علاقة بتدبير شـأن هذه المنظومة عبارة بخس لمجهوداتهم ، وظلم في حقهم . وفي اعتقادي أن وجهة النظر هذه مجانبة للصواب ذلك أن النقد هو في حقيقة الأمر التمييز بين الزائف والصحيح في كل شيء يتناوله وليس بخسا أو ظلما لأحد . ولما كان الكمال لله عز وجل ، وكان النقص قدر البشر المحتوم مهما بذلوا من جهد ، فإن الإنجازات البشرية تخضع بالضرورة لمعياري الزائف والصحيح الشيء الذي يجعل النقد ضرورة لا مناص منها . وكل من توكل إليه مهمة تدبير الشأن التربوي يتراوح تدبيره بين السداد ، والتقصير حسب مؤهلاته ، وكفاءاته ، واستحقاقه للمسؤولية التي إما أن يطلبها وهو دون مستواها أو تناط به لاعتبار من الاعتبارات وهو أهل لها ، علما بأن طالب المسؤولية فشله ضربة لازب ، بينما الذي تعرض عليه وهو مشفق منها زاهد فيها يغلبه الله عز وجل عليها ويوفقه ويسدد سعيه .
ومن المعلوم أيضا أن اللاهث وراء المسؤولية وهي تتبرأ منه يعي جيدا عجزه وقصوره لهذا يعول كثيرا على كل ما يموه على عجزه وقصوره ، ويصرف عنه الأنظار . وأخوف ما يخافه اللاهث وراء طلب المسؤولية هو النقد الذي يكشف حقيقته للرأي العام ، ويفضحه . وهذا النوع هو الذي يسعى إلى التشكيك في النقد الفاضح له طعنا في مصداقيته عن طريق تأويله التأويلات الباطلة والسخيفة . وأول تشكيك في النقد يتوجه إلى الحكم على نوايا الجهة المنتقدة من خلال محاولة اختلاق خلافات معها. وقد تصرح الجهات المنتقدة أنها بعيدة كل البعد عن منافسة اللاهثين وراء المسؤولية ، وأنها ليست على خلاف سابق معهم ،ولكن اللاهثين يجدون في مثل هذه الذرائع ما ينفس عنهم عقدة الشعور بالتطاول على مسؤوليات فوق ما يطيقون بدافع حب الظهور أو الطمع فيما تدره هذه المسؤوليات من امتيازات مادية وغير مادية. وحال هؤلاء كحال أشعب الطماع الذي كان يصد عنه الصغار العابثين به بكذبة مفادها وجود وليمة في مكان ما ،وبعد انصرافهم عنه مباشرة يصدق كذبته فيتبعهم إلى حيث وجههم . فكم من لاهث وراء المسؤولية أهدر ماء الوجه وماء القفا معا ، ومرغ الكرامة والعرض في وحل الاستجداء ، وقبل الأحذية الوسخة ، وحاز العار الذي لا يغسل ولا يزول ، ومع ذلك لا يخجل من التبجح بأحقيته وأهليته في ما حاز عن طريق الاستجداء المفضوح . ولا يفوت هذا اللاهث فرصة دون أن يحاول الانتفاش على طريقة السنور خصوصا عندما يخاطب بالألقاب والنعوت المدغدغة لأطماعه ، وهو بذلك يعرض نفسه للسخرية والاستهزاء ويستسيغ ذل وهوان السخرية لهوان نفسه عليه ولتفاهته ، وحقارة أهدافه ولهثه من أجل المسؤولية المتبرئة منه. واللاهث وراء المسؤولية حريص شديد الحرص على الشكليات والبرتوكولات التافهة التي تعكس تفاهته وصغاره بما في ذلك الحرص على الظهور أمام من يعرف ماضيه وحقيقته ولسان حاله : » ها أنا ذا قد صرت كما ترون بعدما كنت كما تعرفون » وهو في أعماقه يتجرع مرارة الماضي الثقيل الذي يتمنى لو صار بعيدا عنه بعد المشرق عن المغرب ، ولو استطاع شطبه من الزمان لما تردد في ذلك طرفة عين .
واللاهث وراء المسؤولية يسرف في التواضع الكاذب وكأن المسؤولية فرضت عليه فرضا ، وهو أيضا كثير الشكوى من كثرة المشاغل ، وقد يقسم بمحرجات الأيمان أنه لم يرغب يوما في هذه المسؤولية التي أصابته مصيبتها . واللاهث وراء المسؤولية متضخم الأنا يعاني من داء النرجسية في الظاهر بينما باطنه خزي وذل وهوان وعار وشنار. وعندما ينصب النقد على زائف تدبيره الفاشل تنقشع هالته الوهمية ،ويتبخر سرابه ، ويعتبر النقد مجرد حسد حساد . ولو أنه صدق مع نفسه لاعتبر هذا النقد أفضل نصح كما يفعل الأكياس العقلاء الذين يشكرون من يهديهم عيوبهم ، ويضيقون ممن يطريهم الإطراء الكاذب الذي يحمل في طياته السخرية الضمنية المرة . وما زالت المنظومة التربوية عندنا بألف خير ما دام النقد البناء الهادف غير المحابي أو المجامل يحرسها بجرأة وشجاعة، ونهايتها وانهيارها يكون بغياب هذا النقد الذي يعيبه المعيبون ، ويحرصون على تغييبه لتخلو الساحة أمام اللاهثين والوصوليين والانتهازيين والطفيليين الذين يفسدون المنظومة ولا يصلحون . وأخيرا أختم بطرفة تروى عن مسؤول ناجح سئل عن سر نجاحه فأجاب بأنه كان يتقبل النصح بصدر رحب ، ولا يضيق أبدا ممن يعارضه ويقول له : « لا أيها المسؤول لقد زلت بك قدمك في هذا الأمر » ولو كان النقد غير مجد كما يظن اللاهثون وراء المسؤوليات لما تجاسر الصحابة رضوان الله عليهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور راجعوه فيها وسألوا عنها : » أهي الوحي أم الرأي والمشورة ؟ » فإذا ما أخبرهم بأنها مجرد رأي أشاروا عليه بالصواب إذا ما جانب رأيه الصواب . فاللاهثون وراء المسؤولية ـ وقدرهم المحتوم أن تغلبهم ـ أولى بأن ينصتوا إلى النقد عندما يسألون عن تدبيرهم المتعثر : » أهو تدبير يقوم على نصوص تشريعية وتنظيمية أم تدبير يخبط خبط عشواء ؟ » واللاهثون يكرهون من يراجع تدبيرهم لقناعتهم الراسخة بأنه فاشل ، ولا يعتمد على أسس تشريعية أو تنظيمية ، أو يسيء استخدام هذه الأسس لتبرير فشله.
Aucun commentaire