الـمبدعون هم من سيـقود العالم
إن الإنسان المبدعَ جزءٌ من كل إنسانٍ تطـأُ قـدمه الأرض. إنه قـنبلة تـتَحينُ فـرصَة الإنفجار، وتراقب من يوجـدُ خارجَ مـجالها في ذهولٍ وحيرة : » كـيف لـداءِ الإبداع، شـظايا الـقنبلة – المضادة لكـل أشكال التـدمير – ألا تصيب ولـو جزءاً من كـيانهم، أو تـخرجهم من صـمتهم وعـتمة لـيلهم الـطويل ؟
أرد عليـها سـاخرةً : » صمـتاَ ..أرجوك ! هناك الكثير مـمن يعشـقون السلام من بين هؤلاء ! .. فقط السـلامَ الذي يَـجعلهم يـقفون في وجـه قنـابل الإبـداع!
فـعلاً، إن البعضَ يـرى في الإبداع داءً يجب القضاء عـليه، أو قنبلة مدمـرة وجب التـصدي لـها، وهـؤلاء هم بالضبط » عُـشاق السلام » ! لـكن ليس السلامَ الذي نعرفه، إنه سـلامٌ يبـيح كل شيء، بما في ذلـك هَـتك الأعراض وإباحة قتل الأرواح، بل وكـل
الجرائم المرتكبة ضـد الإنسانية، ولـكنه يـرفـض الإبداع وكـأنه قـنبلة نـووية محـظورٌ ترويجهـا في الأوساط العامة وحتى الخاصة.
وفي واقع الأمر، الإبداع قنـبلة مدمرة بالـفعل ! .. إنها مدمرة لكل محاولات تـدمير الـعقول الحرة، والأفكار البناءة، مدمرة أيضا لتلك « المـصابيح الـصوريـة » الـخاصة بـنشر الظـلام بدل النور، لأنهـا تدخل اعماق بيـوتنا ومـدارسنا وأوطاننا في أشكال مثيرة للإعجاب، غير أنها تحـمل الـسم القاتل في داخلها .
الإنسـان المـبدع في عالمنا الـعربي ليس شيئاً آخر سوى مجرماً فـاراً من العـدالة، أو إرهـابي صـانع لأسلحة مـدمرة للمـجتمع الـذي يريدونه مـرتدياً دائـما لجـلباب التـقليد الأعمى، غارقـاً للأبد في وحـل الـعادة، خاضعاً لـسحر الـصمت والخوف، مُـقيـداً بأغلال الـزيف المغطى بـرداء الحقيقة، و يعيش وهـم المعرفة ظنا منه أنه يعرف كل شيء .. يريدون بـبساطة إنساناً مـفرغاً من إنسانيته و من عقـله وضميره!
إنـهم بـرفضهم للـضمير الحي والعقل الحر وروح الإبداع في الإنسان الـعربي، يرفضـون إنسانيته بـأكملها . ولـنا أن نتصور بـعد ذلك شكل المعاملة التي سيخضع لها هذا الإنسان المفرغ من إنسانيته.
إن كان الإبداع قنابل موقوتة، وكان المـبدعون إرهابيـين مجرمين أخـطأتهم المحـاكم والـسجون، فـلنا الشرف أن نعلن بصوت عالٍ، عميق الـمعنى والـمفهوم، ثم نكتب على بطاقاتنا الـوطنية : » انا إرهابي فـارٌ من مؤسسات وجمعيات حفظ السلام والأمن بالبلاد العربية. »
هـذا النـص هو دعـوة للكـل لإعادة النـظر في شخصيته، أيديولوجيته التي ورثـها عن الوعي المجتمعي السائد، أو اللاوعـي – ليس بمفهوم عالم النفس فـرويد للاوعي – كتعبير أدق . وهي أيضا تحذير من قبول كل ما يـعطى جاهزاً مـعدا سـلفاً في عـلبٍ مغلقة، وكـل ما يتم تـدريسه على أنه » حقيقة » ..
وأدعو للتساؤل لبرهة من الزمن عن مـاهية وطبيعة هذا المـعطى الجاهز المـسمى » حقيقة » .. بـأي معيار هو حقيقة ؟
هل بمعيار الـنظام التعليمي، النـظام الإجتماعي الشعبي، أم بمعيار النظام الـكوني الذي لم أسمع يوماً أنه كان يحدد معاني الإصطلاحات البشرية ؟
ما أريد قوله، بصريـح العبارة، هـو أنـه يجب أن نكف عن السخرية من أنفـسنا .. نـحن أفضل من ذلك بكثير، ولا يجب أن نـقبل كل تلك الـعلب/ الهدايا المقدمة إلينا في أطباق من ذهب تـغرينا، كما أغرى حـصان طروادة الخشبي الـحاكم فـقبل بـإدخاله الـقصر ليكون مصدر هزيمته . الحقيقة إن كانت موجودة فـهي لا تُـعطى أبدا .. إنـها نتيجة للـبحث المستمر والدؤوب والقراءة الناقدة والتحليل المستمر للأشياء، وعـدم التـلقي الأعمى كأن ما نتلقاه هو عـين الحقيقة .
يـقول الفيلسوف الألماني الملقب بـصاحب المطرقة، في كتابه » إنسان مفرطٌ في إنسانيته » ما يـدعم فكرتي ويـقويها : » يـعتبر المفكر الحر، إذا ما قورن بالذي يقف التقليد إلى جانبه ولا يحتاج إلى حجج يبرر بها أفعاله، يعتبر دائما ضعيفا، خاصة في أفعاله، لأن لديه الكثير من البواعث ووجهات النظر التي جعلت يـده مترددة وغير متمرسة. ما هي الوسائل التي ستجعله قويا نسبياً حتى يستطيع على الأقل أن يثبت نفسه ولا يـضمحل سدىً؟ كيف يـولد العقل القوي ؟ المسألة، في حالة منفردة، هي مسألة إبراز العبقرية. من أين تأتي الطاقة، القوة المتينة، التحمل، التي بها يسعد الفرد، ضد تيار التقليد، إلى اكتساب معرفة بالعالم تـكون ذات صيغة شخصية تماماً ؟ »
ثم يـضيف في فقرة أخرى : » قـد تساعدنا البراعة التي يحاول بها السجين أن يهرب، وكذا برودة الدم والصبر الفائقان اللذان يستغل بهما أدنى فرصة، على فهم الطريقة التي بها تـخلق الطبيعة عـبقرياً – كلمةٌ أرجو أن تُفهم دون أية خلفية ميثولوجية ( أسطورية ) أو لاهوتية ( دينية ) : إنها تحبسه في زنزانة وتُـغيظ رغبته في الفرار. أو، حتى نُــعَبر بصورة أخرى: الذي ضل طريقه كُــليةً داخل الغابة، لكنه يـجهد في بلوغ البلدة المنبسطة بالسير في اتجاه معين بطاقة خارقة، قد يكتشف سبيلاً جديدا لا يعرفه أحد, هـكذا تُــولد العبقريات التي نحتفل بأصالتها. – لـقد ذكرنا آنفاً أن بَـتْـرَ عُضوٍ، أو وجود ضمورٍ أو نقصٍ بارز في عضو ما يوفر في الغالب فرصة لعضو آخر لـيطور مزايا استثنائية بما أنه عليه القيام بوظيفة زائدة عن وظيفته. انطلاقاً من هذا يمكننا أن نكتشف أصل العديد من المواهب المتألقة. – من هذه الإشارات العامة حول تـكون العبقرية سننقل التطبيق إلى هذه الحالة الخاصة، حالة تـَكَــون الـمفـكر الحر الكـامل. »
إن نيتشه في هذين النـصين، كما في غيرهما، بل في كل نصوصه، يمارس عملية « نـقض » جذور المعرفة، وتحطيم أصنام العقل وقـلب جميع الـقيم، هذا الفيلسوف الثائر على الكل قد يعلمنا الكثير من فلسفة القوة، ويجعلنا نحـذو حذوه في سبيل القضاء على أوهام التقليد – لا أقصد بهذا إحداث هُــوةٍ / ثـغر بيننا وبين الـماضي، والقطيعة معه للأبد، بل أقصد غـربلة ما يحمله هذا التقليد عادةً من أوهام وأساطير لا زالت تحتضننا ونحتضنها بدورنا، تلك القوالب المعدة سـلفاً، تأخذ وقتا طويلا جدا للتخلص منها .. حتى إننا تعودنا عليها فـتـعودت هي علينا وأصبحنا نراها حقيقة بديهية لا مفر منها – .
إنـنا مبرمجون – بهذا المعنى الدقيق للكلمة – على قبول كل ما يعطى لنا، وعلى نبذ التغيير، فأصبحنا نـتقن الصمت كـما، أو ربما أكثر مما نتقن شرب الماء
Aucun commentaire