الفلسفة و الحداثة
الفلسفة والحداثة
علي بلجراف (+)
إذا كانت الفكرة السائدة حول الحداثة هي أن لها تاريخا وبداية غير بعيدين كثيرا ، فإن بإمكاننا القول إن الفلسفة كانت مسكونة بالحداثة منذ النشأة الأولى . لكن ، كيف يمكن تفسير ذلك ؟ وما علاقته بالوظيفة النقدية المعروفة عن الفلسفة ؟
نشأت
الفلسفة وتميز التفلسف ، منذ الظهور الأول ، كفعل نقدي. فما المقصود بالنقد كوظيفة للفلسفة وما علاقة النقد الفلسفي بالحداثة ؟ يدلنا تاريخ الفلسفة أو تاريخ ممارسة التفلسف على حقيقة أساسية هي أن عمل النقد قد تأسس ، داخل نظام التفكير الفلسفي ، كإنتاج لمجموعة من الإحراجات العقلية ( الإحراج أو المعضلة أو L’aporie أو المفارقة = سؤال يحيل على حلين يبدوان متعارضين ولا يستساغ الجمع بينهما . مثال بسيط : هل الوجود واحد ومتعدد في نفس الوقت ؟) يقع على منطق تفكير آخر قائم من أجل تأزيمه وزحزحته عن كل أحادية أو مركزية مزعومة . لنتذكر كيف عملت الفلسفة ، بوصفها تفكيرا جديدا ، على إسقاط التفكير الأسطوري السائد آنذاك وتمريغه في إحراجات لا حصر لها ، من طبيعة أنطولوجية وإبستمولوجية لبيان محدوديته ، وكيف امتد وتواصل عمل إنتاج الإحراج هذا مع الفلاسفة والمدارس الفلسفية بأسلوب المناظرة غير الخالي من الإبداع والخلق .
غير أن ما يبعث على النقد الفلسفي بهذا المعنى ويغري بممارسته هو عدم اكتمال الفلسفة أو الفلسفات نفسها . لنلاحظ على الفور أنه قد كان ثمة ، منذ البداية ، فلسفات وليس فلسفة واحدة . وهذا في حد ذاته ما يشكل نقطة قوة التفكير الفلسفي وليس نقطة ضعفه كما قد يعتقد . يكفي أن نذكر السجال الفكري المنطقي الرفيع الذي يدلنا عليه أرسطو والذي دار بين فلاسفة يتوزعون إلى مدرستين أساسيتين في الفلسفة الماقبل سقراطية وهما المدرسة المدافعة عن » الوحدة والثبات » في الوجود ، وعلى رأسها » بارمنيد » و » زينون » ونظيرتها المدافعة عن » التعدد والحركة » وعلى رأسها ، في البداية ، » هيراقليط » وبعده » ديموقريط » . من منا لم يسمع بنهر هيراقليط الذي لا يمكن للمرء أن ينزله مرتين كناية عن الحركة والتغير المستمرين في الوجود وفي مقابل ذلك حجج زينون ضد الحركة وعلى رأسها حجة » السهم » ، المتحرك الثابت ، على اعتبار أن الحركة معناها قطع مسافة معينة من نقطة « أ » مثلا إلى نقطة « ب » لكن ذلك يقتضي ، حسب زينون قطع نصف المسافة أولا ثم نصف النصف ثم النصف الموالي . وبما أن الأنصاف والأجزاء لا نهائية ، فإن الحركة مستحيلة من الناحية العقلية . لم يقتصر السجال والنقد و »التفكير ضد » على مرحلة من المراحل بل هو طابع مميز لكل تاريخ الفلسفة . وذلك لأن كل فلسفة تريد نفسها مجرد أطروحة تطرح نفسها كإمكانية لكنها لا تستنفذ كل الإمكانيات ولا تسد بالضرورة كل الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها التفكير لإرساء أطروحة ( فلسفة) أخرى . غير أن التفكير ضد الفكر السائد بهذا المعنى لا يعني الإلغاء أو الإماتة فليس ثمة فلسفة ألغت تماما فلسفة سابقة أو لاحقة .
ليس الأمر نفسه بالنسبة لمجالات أخرى غير الفلسفة . لا يمكن ، مثلا ، إنتاج النقد داخل منظومة عقائدية ما دون الوقوع في خارج مطلق بالنسبة لهذه المنظومة العقائدية . وبالمثل ، لا يمكن تصور تعايش نظريتين علميتين متعارضتين أو بارديغمين متضادين . ولعل هذا التميز الفلسفي هو ما يؤشر على الحاجة إلى الفلسفة في كل زمان ومكان . ليس فقط لأنها تمرين بيداغوجي ضروري على قيم الإنصات والكلام والديموقراطية بل ولأنها أيضا أداة ومنهجية للتربية على التساكن والتعايش والتجاور بين المتعدد والمختلف و تجسيد » للتتويج » . والظاهر أن الحداثة والعولمة هما التتويج الذي نعيشه اليوم . العولمة تعميم للموجود . ويمكن قراءة هذا التعميم كتآكل تدريجي لكل ما هو خصوصي ( هل هو كذلك فعلا؟ ) . لكن ربما ينبغي ألا نغفل عن حقيقة أخرى مضادة هي إمكان تحول التحجج بهذا الخصوصي إلى عقبة كأداء في وجه تعميم الموجود وتقاسمه بين البشر خاصة إذا كان هذا الموجود هو الحرية وحقوق الإنسان بأجيالها المتعاقبة بداية من الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وصولا إلى الثقافي والبيئي . ما أحوجنا إلى الفلسفة كتمرين نقدي قصد الانخراط بأمان في روح العصر .
(+) مفتش فلسفة بنيابة الناظور
2 Comments
لقد تم ارتكاب خطأ استراتيجي من طرف الدولة عندما أقدمت على تحجيم مكانة الفلسفة في المؤسسة التعليمية خاصة في الجامعة وكان لذلك التحجيم عواقب وخيمة على التربية على التسامح والانفتاح والنقد . وفي الفترة الأخيرة لاحظنا نوعا من رد الاعتبار لهذه المادة نظرا لأدوارها المنتظرة في في خدمة مشروع المجتمع الديموقراطي الحداثي
أظن أن الفلسفة لكي تؤدي دورها الحداثي يجب أن تكون جزءا من ثقاقة نقدية سائدة، فهي أداة كما ذهبت انت إلى ذلك وهي أيضا عصارة فكرية لعصرها. لا يمكن أن نتفلسف خارج تقاليد نقدية سابقة وجارج القدرة على وضع الذات في الميزان. وهذا مبتغى بعيد المنال في الوقت الراهن، مع ذلك يبقى الحلم مشروعا. شكرا على هذا المقال الذي يساهم في نشر ثقافة التفلسف. لكل شيء بداية