حديث الجمعة : (( الذين إن مكَّنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ))
حديث الجمعة : (( الذين إن مكَّنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ))
محمد شركي
من تكريم الله عز وجل لبني آدم استخلافهم واستعمارهم في الأرض ، وهذا من أجل نعمه عليهم ، لهذا اشترط عليهم شكر هذه النعمة ، وجعل شكرها الاستقامة على دينه ، وطاعته فيما أمر وما نهى . ولمّا كان البشر ليسوا سواء في شكر نعمة الاستخلاف والاستعمار في الأرض، كان لا بد أن ينشأ خلاف بين شاكري هذه النعمة ، والكافرين بها ، الشيء الذي إلى صدام وصراع بينهم . ولقد تعهد الله تعالى بنصر الشاكرين على الكافرين وإظهارهم عليهم والتمكين لهم في الأرض ، جعل لذلك ثمنا، وهوالثبات على الطاعة والاستقامة مصداقا لقوله تعالى :
(( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا وليَنصُرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكَّنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )) ، ففي هاتين الآيتين من سورة الحج إشارة إلى حتمية وقوع الصدام بين من يؤدون شكر نعمة الاستخلاف والاستعمار في الأرض وبين من يجحدونها ويكفرون بها . وينتج عن الصدام بينهم تدافع ينتهي بنصر الله تعالى عباده المؤمنين على أعدائهم الكافرين والتمكين لهم في الأرض من أجل أن يعبد ويطاع سبحانه وتعالى ، ويقام دينه ويظهرعلى الدين كله ، ويقام شرعه ، وبذلك تزول شرائع الأهواء التي من وضع البشر .
ولقد جاء في تذييل الآية الأولى قوله تعالى : (( إن الله لقوي عزيز )) الذي يتضمن إشارة إلى وعد ناجز منه سبحانه وتعالى بنصر من ينصر دينه ذلك أن الناصر يكون حتما ذا قوة وعزة ومناعة .
وفي الآية الثانية يأتي ذكر تمكين الله عز وجل للذين ينصرون دينه فينصرهم . والتمكين هو التمليك وبسط السلطة ، والنفوذ، والتحكم في الأرض التي يملِّكها لهم ،فيستقرون فيها بعد التدافع والصدام . ولقد اشترط سبحانه وتعالى شروطا من أجل الظفر بهذا التمكين ، وهي إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
أما إقامة الصلاة، فتدل على إقامة دين الله عز وجل، لأنها ترمز إلى توحيده جل شأنه ، وهي صلة يومية بينه وبين عباده المؤمنين ، يجددون في كل صلاة من الصلوات الخمس عهدهم بالثبات على إيمانهم بوحدانيته وألوهيته وربوبيته ، ويستعرضون خلالها ما أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما يتضمنه وحيه من تشريع أوامر ونواه به تستقيم حياتهم اليومية وتطيب .
وفي الصلاة توحيد الله عز وجل واستحضاره على الدوام ، وهي بمثابة إنجاز العهد الذي عاهده به المتمكنون في الأرض، ومن نقضه بتركها أو بالتفريط فيها إنما يقيم بذلك حجة على نفسه بالخروج عن طاعته . ولا يخفى ما لكيفية أداء الصلاة ركوعا وسجودا من دلالة على الخضوع لله تعالى وطاعته ، فضلا عن دلالة ما بينهما من أقوال دعاء، وتبتلا ، ومشاعر خضوعا ، وخشوعا …
ونظرا لكون الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد ركن توحيد الله تعالى ، والإقرار بنبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنها أفضل ما يعبر عن الركن الأول إجرائيا وعمليا، لأنها عبادة مستدامة ، بينما باقي الأركان من صيام، وزكا،ة وحج وإن كانت هي الأخرى تعبر إجرائيا وعمليا عن التوحيد ، فإن بعضها يكون بعد انصرام الحول كالصيام والزكاة ، بينما يكون الحج مرة في العمر ، ولهذا فإن عبادة الصلاة هي ما يميز بين بلاد الإسلام وغيرها من البلاد التي لا دين لها أو التي تدين بغيره من الأديان المحرفة أو الوضعية . ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن الأذان للصلاة في حد ذاته إعلان عن إسلام الجهة التي يرفع منها ، كما أن في مضمونه في عبارة » حي على الصلاة حي على الفلاح » التي تعد تعبيرا عن الترجمة الفعلية لتوحيد الله عز وجل أو الدليل والبرهان العملي عليه .
وأما الزكاة وهي عبادة مادية ، فدلالتها هي توفير الشرط المادي لقيام دولة الأمة المسلمة بحيث تضمن ظروف العيش الكريم لكل أفرادها ، فتتقارب مستويات معاشهم ، فضلا عما فيها من دلالة على التكافل والتراحم ، والتقارب والتواد ، الشيء الذي يحول دون التنافر والتباغض اللذين يفضيان إلى الصراع والاقتتال على الأقوات حيث يثور المحاويج على الموسرين للحصول على أقوات تصون كرامتهم . وإتيان الزكاة دليل عملي آخر إلى جانب إقامة الصلاة على القيام بالدين ، وتثبيته في النفوس .
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما أمران متلازمان أوهما كالوجهين لورقة مالية ، لهما نفس الدلالة ، ذلك أن إنكار المنكر هو في حد ذاته أمر بالمعروف ، والعكس يصح أيضا ، وكلاهما يدل على تطبيق شرع الله عز وجل في كل أحوال الأمة المسلمة التي يستوي أفرادها في العلم بالمعلوم منه ، بينما يختص ، ويتعمق في دقائقه أهل العلم حسب مراتبهم فيه ، وهم من يدلون الأمة على ما يباح لها من أحوال ، ومما لا يباح لها مما يكون مخالفا للشرع .
هذه هي شروط شكر نعمة تمكين الله عز وجل لعباده المؤمنين في الأرض بعد نصرهم على أعدائهم ، وهي بمثابة عهد ملزم لهم أوهي أمانة في أعناقهم، فمن أخل بشرط منها ، فقد نقض العهد ، وخان الأمانة .
ولئن كانت مناسبة نزول هاتين الآيتين هي انتصار المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ، والتمكين لهم في الأرض ، فإن قاعدة اعتبار العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم لا بخصوص مناسبات نزوله، تجعل النصر والتمكين منة ونعمة من الله عز وجل وعد بها كل المؤمنين في كل زمان ،و في مكان إلى قيام الساعة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بوعد الله تعالى الناجز بنصرهم وبالتمكين لهم كلما نصروا دين الله عز وجل ، والتزموا بما أمرهم بعد التمكين لهم . وما أحوج المؤمنين الذين فتنوا في دينهم في هذا الزمان، وأخرجوا من ديارهم بغير حق أو قهروا فيها ـ ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ـ المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج في قطاع غزة والضفة الذين يواجهون أعتى احتلال في هذا الزمان ، وكذا المؤمنين في سورية الذين لاقوا من أصناف الظلم والتنكيل على يد حاكم طاغية ظلوم مستبد كمثل ما لقي إخوانهم في فلسطين ما أحوج هؤلاء وأولئك إلى استحضار وعد الله الناجز بالنصر والتمكين مقابل الوفاء بعهدهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ولقد ذيل الله تعالى آية التمكين بقوله جل وعلا : (( ولله عاقبة الأمور)) تأكيدا لوعده الناجز والذي لا يتأخر إذا حان أوانه ، وطمأنة لنفوس الذين قد يستعجلون إنجاز هذا الوعد . ولما كانت العاقبة دالة على المآل، وهي بيد الله تعالى ، فلا داعي للاستعجال، لأن ما يراه الخلق بعيدا هو عند الله تعالى قريب . وللمؤمنين عبرة في التاريخ الذي مر في بعض حقبه شكر أمم مسلمة مضت نعمة التمكين من خلال إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فدام لها التمكين ، كما مر في حقب أخرى تفريط أمم مسلمة في شكر التمكين ، فزال عنها ، وحرمت منه ، وضياع بلاد الأندلس الفردوس المفقود خير دليلا على ذلك ، ولهذا يجب أن يحذر المسلمون حيثما وجدوا من زوال نعمة التمكين إذا لم تشكر عمليا وإجرائيا كما أمر الله تعالى.
اللهم عجل بنصر وتمكين قريبين لعبادك المؤمنين في فلسطين كما أنجزت وعدك لعبادك في سورية ، واجعل اللهم في نصرهم ، وفي تمكينهم في أرضهم نصرا لدينك، وإعلاء لرايته ، وإظهارا له على الدين كله . اللهم آمين يا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire