قراءة مواطن عادي لزيارة دولة غير عادية
بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة مواطن عادي « لزيارة دولة » غير عادية
الحسن جرودي
ترددت كثيرا قبل أن أعزم على الكتابة في هذا الموضوع الشائك والمتعلق « بزيارة الدولة » التي قام بها الرئيس الفرنسي للمغرب، وذلك لكثرة اللغط الذي صاحبها والذي تلاها، والذي يمتد من الرفض المطلق إلى الترحيب المطلق بها، ولكوني قليل الخبرة بالسياسة واستراتيجياتها، وغير مُلم بالمعطيات السرية التي كانت وراء برمجتها في هذا الوقت بالذات. ومع ذلك قررت أن أدلي بدلوي في الموضوع، لأني أعلم أن هناك من يشاطرني في الآراء التي سأطرحها، ومن ثم وجب الإدلاء بها للمساهمة في إغناء الساحة الثقافية بأفكار وآراء قد تساعد على مقاربة الموضوع من زوايا مختلفة، بما يسمح باتخاذ الموقف الصحيح، والالتزام بالدفاع عنه، بهدف الارتقاء بمستوى النقاش المجتمعي إلى المستوى الذي يجعل منه أداة توجيهية للطبقة السياسية في اتخاذ القرارات المصيرية التي تهم حاضر الأمة ومستقبلها.
وإذا كان التدافع سُنة من سنن الله في خلقه، تروم مقاومة استشراء الفساد مصداقا لقوله تعالى في الآية 251 من سورة البقرة « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ » فمما لا شك فيه أن أساليب ممارسة التدافع بين الأمم أصبحت تتحكم فيها طبيعة العلاقات التي تجمع بينها، والتي هي في عدد من الحالات علاقات غير متكافئة يتحكم فيها الطرف الأقوى، لذلك تجد مجموعةٌ من الأمم نفسها مضطرة لربط علاقات مع عدد من دول العالم من كونها تمثل الطرف الأضعف، مما يجعلها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام التام للطرف الأقوى في جميع الميادين، وإما الحرص على استحضار مبدأ الندية في في إدارة وتدبير المصالح المشتركة من منطلق منطق « رابح-رابح »، حتى وإن استدعى الأمر القبول ببعض التنازلات التكتيكية التي لا ينبغي أن تصل إلى حد التفريط في المصالح العليا للبلاد، ولا في هويتها ومقوماتها الثقافية، ولست أدري إلى أي حد يمكن إدراج زيارة الرئيس الفرنسي للمغرب ضمن هذا المنطق، ولعله يوجد بنسب معينة في مختلف الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين البلدين مع التحفظ في الجزم به ما دامت البنود الرسمية لهذه الاتفاقيات غير معلنة للعموم، لكن الذي أثار انتباهي في خطاب الرئيس الفرنسي هو غياب هذا المنطق في الجانب القيمي والثقافي إن لم أقل حتى الأخلاقي وهو ما سأحاول بسطه في النقط التالية:
- بروز النظرة المتعالية في خطاب الرئيس الفرنسي من خلال تكرار عبارة » on va vous accompagner » كلما تعلق الأمر بمشروع من المشاريع، مما يوحي بعلاقة المصاحبة الأب لابنه، أو المعلم لتلميذه، مع العلم أنه اعترف في نفس الخطاب بأن مساهمة المغاربة فيما توجد عليه فرنسا في الوقت الحاضر أمر لا يمكن إنكاره.
- غياب الشفافية في موقفه من الصحراء المغربية، ذلك بأن تصريحه بأن الحل ينبغي أن يكون في إطار السيادة المغربية يُلزمه بإزالة لفض الصحراء الغربية من قاموسه اللغوي، ولِمَ لا من قاموس اللغة الفرنسية ككل على اعتبار أن موقفه يعبر عن موقف فرنسا، في الوقت الذي أصر فيه على استعمال اسم الصحراء الغربية في قلب البرلمان المغربي، كما أن عدم حسمه في فتح قنصلية فرنسية في إحدى مدن الصحراء، وإعطاء الأولوية لفتح مركز ثقافي فرنسي أو ما أطلق عليه الرابطة الفرنسية، يدل بالملموس على رغبته في خدمة الثقافة الفرنسية، وإحلالها محل الثقافة الأصيلة التي لا زال سكان الصحراء يحتفظون بها .
- استخفافه، بل احتقاره للشعب المغربي الذي أبان عن مساندته للشعب الفلسطيني من خلال الوقفات التي دأب على تنظيمها منذ السابع من أكتوبر 2023 بل وحتى قَبله، من خلال تصريحه الوقح الذي أفتى فيه بحق الصهاينة في الدفاع عن أنفسهم، ومطالبا بإطلاق سراح ما تبقى من الرهائن، دون الاكتراث بالإبادة الجماعية الممارسة ضد الفلسطينيين أطفالا ونساء وشيوخا، ولا حتى الإشارة إلى المعتقلين الفلسطينيين في سجون العدو الذين يُعَدّون بالآلاف مقارنة مع تلك الحفنة التي أسرها مقاتلو حماس في ذلك اليوم المشهود، علما أنه لا مقارنة بين معاملة أسرى حماس ومعاملة معتقلي العدو الصهيوني.
وإذا كان إصرار ماكرون على احتفاظه باستعمال اسم الصحراء الغربية، وجرأته في الدفاع على حق الصهاينة المغتصبين لأرض غيرهم في الدفاع عن أنفسهم، في نفس الوقت الذي يصف فيه حركة حماس بالإرهابية، وهي التي تدافع عن أرضها ومقدساتها، يُعتبر استفزازا صريحا للشعب المغربي، فإن موقف « ممثلي الأمة » بغرفتيه يُعد أكثر استفزازا عندما قابلوا استفزازه بالتصفيقات الحارة عوض إيقافه عند حده، ولو بأضعف الإيمان الذي يمكن التعبير عنه بالإحجام عن التصفيق الذي لا يمكن الاستهانة بدلالته الرمزية على الأقل، أما أن يَنتظر بعضهم حتى يخرج من مقر البرلمان ليتبجح بشجبه لهذا التصريح، فذلك هو النفاق بعينه الذي ينطبق عليه المثل المغربي الدارج » فاتك الغرس في مارس » الذي يعني في هذا السياق أن المواقف لا تكون ذات قيمة إلا اتخذت في أوانها، أو بالمثل الذي لم يحرك فيه شخص ساكنا في الوقت الذي عيره شخص آخر بكونه دجاجة، وانتظر حتى دخل منزله وتأكد من غلق الباب ثم رد عليه قائلا « تنقبك » أي تنقرك بمنقارها، وهو ما يدل على أن جبنه فاق جبن الدجاجة بكثير، مع العلم أنها لا تدخر جهدا في الدفاع عن فراخها ضد كل من يستفزها.
إن سكوت « ممثلي الأمة » على تصريحات ماكرون السالفة الذكر يعد إقرارا لها، ويعتبر مؤشرا أساسيا على عدم توفرهم على الجرأة الكافية لمواجهة شخص يحتقرهم في عقر دارهم بالشكل الذي يفرغ شعار الندية بين البلدين من مغزاه الحقيقي، حتى وإن اعتبرنا جدلا أن التصفيق كان من باب مجاراة التوجهات الحكومية، أما إذا ثبت صدق تصفيقاتهم الحارة، فذلك تعبير صريح على خذلانهم لسواد الشعب المغربي الذي أوصلهم إلى مناصبهم، والذي لا زال يواظب دون كلل أو ملل منذ طوفان الأقصى على الخروج في مسيرات ضخمة، للمطالبة بإسقاط التطبيع مع العدو الصهيوني، والتنديد بالإبادة اليومية للشعبين الفلسطيني واللبناني.
لقد أضاع « ممثلو الأمة » بتصرفهم هذا فرصة ذهبية لاسترجاع ثقة الشعب المغربي، التي بدونها لا يمكن لهم القيام بالدور المنوط بهم في ضبط عمل الحكومة، التي يبدو أن بعض مسؤوليها المعروفين لدى الخاص والعام يصرون على التفريط في عدد من ثوابت الأمة وقيمها الأصيلة.
وإذا قمنا بربط هذا التصرف بعدد من المواقف السابقة في شأن عدد من المواضيع والقضايا الحيوية التي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المصادقة على اعتماد اللغة الفرنسية في التدريس عوض الإنجليزية رغم تفوقها الوظيفي والبراغماتي، والموافقة على مشروع تقنين زراعة القنب الهندي، وتشكيل مجموعة الصداقة البرلمانية المغربية الإسرائيلية، وسكوته على مواصلة اعتماد الفرنسية في عدد من الوثائق الرسمية، وفي عدد المرافق العمومية، بل حتى اللوحات الإشهارية في واجهات المقاهي والمتاجر أصبحت تُكتب حصريا باللغة الفرنسية، حتى يَخال زائر أجنبي لمدينة من مدننا أنه في بلد لا ينص دستوره على كون اللغة العربية لغته الرسمية… قلت إذا قمنا بهذا الربط، فإن أهمَّ استنتاج يمكن الخروج به هو أن الموقف المعبر عنه اليوم، يندرج ضمن صيرورة مفادها التخلي المتدرج على مجموعة من الثوابت الوطنية والدينية، وهو ما يتجلى بوضوح في عدد من المهرجانات والتظاهرات الماجنة، التي تسهر على تنظيمها وزارة الثقافة، وفي خرجات السيد وزير العدل التي يجاهر فيها بمساندته المطلقة للحريات الفردية، كما تُروِّج لها المرجعية الغربية، بهدف التطبيع مع الشذوذ الجنسي والزنا والإفطار العلني في رمضان والإجهاض…
وإني لأكاد أجزم بأن الماسكين بزمام السلطة في الغرب بدون استثناء، يتخذون من مقولة ونستون تشرشل التي يقول فيها « في السياسة ليس هناك عدو دائم، أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة »، قاعدة جوهرية في ممارساتهم للسياسة الخارجية، والرئيس الفرنسي لن يستنكف عن العمل بهذه القاعدة، وإنما بَرهن على تجسيدها عمليا في علاقته مع كل من المغرب والجزائر، فعندما كانت حاجته ماسة إلى بترول الجزائر وغازها الطبيعي، عمل على التقرب منها بكل الوسائل، لكن بمجرد ما تبين أن العلاقات مع المغرب أكثر مردودية، ولى وجهه شطر المغرب، وإلا فما الذي أخَّر اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء إلى اليوم؟ وأرشيفها الاستعماري لِكِلا البلدين يشهد على أن الصحراء مغربية 100%. لذا وجب على نخبنا السياسية أن تضع هذا الأمر في الحسبان، وألا تفرط في مصالح أمتنا، التي لا يمكن صونها في منأى عن سريان الثقة بين مختلف مكونات المجتمع حكام ومحكومين، وهذا لا يتأتى إلا في جو تطبعه الاستجابة للمطالب الحيوية للشعب، المتمثلة أساسا في التمسك بثوابته الدينية والوطنية، في اتجاه ردم الفجوة بين الحكام والمحكومين، وتجنب كل سبل التنازع المؤدي إلى التفرقة التي مآلها الفشل وذهاب ريح الأمة مصداقا لقوله تعالى في الآية 46 من سورة الأنفال ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
ومما لا شك فيه أن كل تصرف غير محسوب العواقب من قبل المسؤولين من مختلف مواقعهم، ينعكس سلبا على تصرفات عدد من أفراد المجتمع، فإذا كانت الحكومة والبرلمان يصران على التطبيع مع الصهاينة، فلا يُستغرب أن يصرح بعض المحسوبين علينا، بأنهم كلهم إسرائيليون، وينظم فيه البعض الآخر زيارات « لإسرائيل »، كالزيارة التي نظمها مكتب الاتصال الإسرائيلي للوفد الصحفي المغربي التي انطلقت من فرنسا، وكتلك التي قامت بها ما سمي بجمعية « مغرب التعايش » إلى القدس ومجموعة من المدن الفلسطينية المحتلة، وها نحن نرى الشرخ الذي أصبح يتسع يوما بعد يوم بين أفراد المجتمع المغربي، ففي الوقت الذي يتشبث فيه سواد المغاربة بالدفاع عن القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية مركزية لا تقل أهمية عن القضية الوطنية الأولى، للاعتبارات الدينية والتاريخية المعروفة لدى الجميع، نجد هؤلاء الذين يجدون في مواقف المسؤولين سندا لهم، يدافعون بعنجهية عن تصرفهم، بدافع المصلحة الوطنية، حتى بلغ الأمر ببعضهم العزم على تقديم شكاية مضادة لتلك التي قام بها المرصد المغربي لمناهضة التطبيع، بتنسيق مع مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، لدى الوكيل العام للملك في محكمة الاستئناف بالرباط، ولا شك أن إصرار المسؤولين، وعلى رأسهم « ممثلو الأمة » السير في نفس النهج، لا يمكن إلا أن يوسع الخرق، ويساهم في تنامي عدم الانسجام بين مختلف فئات المجتمع، الذي بدأت بوادره تظهر في التمييز بين العرب والأمازيغ، مما ينذر لا قدر الله بعواقب وخيمة.
في الختام أشير إلى أنه لا مندوحة على خدمة المصالح العليا لبلادنا، شريطة ألا يكون الولاء فيها لإعدائنا الذين قاتلونا وظاهروا على إخراجنا من ديارنا، مصداقا لقوله تعالى في الآيتين 8 و 9 من سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
الحسن جرودي
Aucun commentaire