أقصى مدة الحمل بين جدل الواقع وسر سكوت النص
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفقه والعقيدة
وجدة،المغرب
1) إذا كانت أقل مدة الحمل قد تم الاتفاق عليها بين جل الفقهاء من خلال الاستنباط الرياضي من النص القرآن ومطابقته للواقع المتكرر والمنضبط ،فإن أقصى مدة الحمل ستعرف واقعا مغايرا ومتأرجحا لا يمكن ضبطه واقعيا وبصورة قطعية ،ومن ثم فلا يمكن التنصيص عليه بالقاطع أيضا ،لأن صاحب النص هو الله الخالق البارئ ،أعلم بخلقه وأطوارهم ومراحل تكوينهم وامتداداته: »ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير » »يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث » »هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة « »ويعلم ما في الأرحام » »الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ».
تغيض :أي تنقص من مدة الحمل :عن عبد الله قال :حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: »إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع :برزقه وأجله وشقي أو سعيد ».
فهذه الآيات، وكذا الحديث، فيها دلالة على خصوصية علم الله تعالى وتدبيره بالتقدير والإحصاء، كما أنها برهان على حصر الكائنات وضبطها عدديا ومكانيا وزمانيا ،أي أنها مهما توسعت وتكثرت فإنها لا تفيد اللانهاية، وإنما هي محصورة بالعدد والجنس والنوع والتطور ،إذن فهي ذات أوائل وحادثة ومخلوقة: وكل حادث أو مخلوق فله خالق،وهذا الخالق هو الأحد العالم والقادر والحاصر والمقدر لذلك المخلوق وطبيعته ،وعلى هذا فالواقع منه والنص منه ،ولا تعارض بين الواقع والنص عند الاعتبار « لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا « .
وحيث إن الامتداد غير محدد في أعمار الإنسان والكون والحيوان على سبيل القواعد الجزئية فإنها تبقى محددة على سبيل المآل الكلي الذي يملك علمه الخالق وحده سبحانه كما دلت عليه الآية في قول الله تعالى : »وكل شي عنده بمقدار « وأحصى كل شيء عددا ».
من هنا؛ فلا تعارض بين اختصاص علم الله تعالى بما في الأرحام وبين ما توصل إليه الإنسان من تقدم علمي حول تحديد جنس الولد وهو ما زال في بطن أمه بواسطة الأجهزة الكاشفة وغيرها ،وذلك لأن هذا العلم يبقى جزئيا وبسيطا جدا في استنتاجاته،بل بدائيا إلى أقصى درجة !لأنه ليس سوى شكل من العمل الآلي على صقل المرآة لتنجلي الصورة ، المخبأة وراء الحجاب ، بعدما اكتمل نموها وتحددت معالم أجزائها المميزة لجنس دون آخر.
ومن ثم فلا غرابة أن يعلم هل الجنين ذكر أم أنثى؟ كما لو استعملت تحليلات الخلايا التي هي أيضا من جنس صقل المرآة التي يعبر عنها بالمجهر ومستويات طاقته في كشف الرؤية وتحليل طبيعة الجسم الصغير الذي قد تعجز العين المجردة عن رؤيته بوضوح.
2) كما قد وجد في الطب العربي القديم وقبل هذه الأجهزة الحديثة وسائل ربما هي أكثر دقة وعلمية كانت وظفت لمعرفة جنس الجنين وحالته وهو في بطن أمه!!!، كعملية: تحليل لبن الأم والتمييز بين الثقيل والخفيف لإدراك هل الجنين ذكر أم أنثى؟في حين قد يستدل على نوع الحمل بأنه »إذا أردت أن تعلم حملها-أي المرأة-ذكرا أو أنثى فانظر إلى كعبيها فإن كانا أملسين صافيين فهي حامل بذكر وإن كانا أخضرين فهي حامل بأنثى … »، إلى غير ذلك من الوسائل المستعملة في الطب العربي والمبثوثة في الكتب الخاصة به، والتي وظفها الفقهاء بنسب متفاوتة وبحسب قوة تجربتها وصحتها وتكرارها ،كما رأينا في إثبات النسب على سبيل الاستئناس ودعم قضية ما.
و رغم كل هذا فإن الوسائل القديمة ، ومعها الحديثة أيضا ، قد تبقى في حكم الاحتمال الراجح ولا تؤدي إلى القطع واليقين التام .
لكن العلم الذي لا يدركه إنس ولا جان هو ذاك الذي يشمل كل مراحل خلق الإنسان في بطن أمه ، ابتداء من اتصال الزوج بزوجته جماعا إلى حصول التلقيح والانتقال في الأطوار .
يضاف إلى هذا شمولية علم الله تعالى للعاقل وغير العاقل ولأحوال الزمان والمكان وكذلك ما تضمنه الحديث من اعتبار الجنين شقيا أو سعيدا ،وتحديد ولادته ووفاته ورزقه ومآله..إلخ.
وكاستنتاج مبدئي في هذا الموضوع نقول :بما أنه لم يرد نص قطعي في ضبط أقصى مدة الحمل فإن سكوته قد يعتبر نصا في المسألة ، وذلك مأخوذ من النصوص التي سبق وعرضنها قريبا مع الاحتكام إلى المدة العادية والمنحصرة في تسعة أشهر قمرية كما يذهب إلى ذلك ابن رشد الحفيد مع ابن حزم الظاهري وغيرهما فيما يحكيه:
« واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد،فقال مالك:خمس سنين ،و قال بعض أصحابه سبع سنين ،وقال الشافعي:أربع سنين ،وقال الكوفيون :سنتان ،وقال محمد بن عبد الحكم:سنة قمرية ،وقال داود:تسعة أشهر .
وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة ،وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد ،والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالناذر ولعله أن يكون مستحيلا » .
فابن رشد يحتكم هنا إلى العادة والتجربة وهذا مرتبط بالوجود كما سبق واصطلح عليه عند تحديد الأحكام الخاصة بالحيض والحمل ونتائجه.
إذ العادة ليست هي التجربة،كما أن التجربة قد تكون وفق العادة أو أنها استثناء،إلا أن هذا الأخير لا يدخل في حكم الشاذ أو الطارئ الذي لم يتكرر إلا بعد دورة زمنية قد تزيد عن القرون كما يتوهم داروين في تطور الإنسان من قرد.
وإلا فلو اعتبرنا رأي ابن رشد في تحكيم العادة بالمفهوم السطحي والبسيط لكان من الممكن إلغاء قطعية أقل مدة الحمل وهي الستة أشهر! لأنها تخرج عن دائرة العادة وتصبح ناذرة بالنسبة لتسعة أشهر ، وفي هذا الإلغاء قد تضيع حقوق الطفل في النسب كما قد تضيع للمرأة أيضا وبنسب متفاوتة للرجل كذلك.
3) فحيث إن التقدير يعلم بتوقيف أو اتفاق؛ وبما أنه لا توقيف ولا اتفاق هنا ،فإنه كما يقول ابن قدمة « ولنا أن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود ،وقد وجد الحمل لأربع سنين ،فروى الوليد بن مسلم قال:قلت لمالك بن أنس حديث جميلة بنت سعد عن عائشة:لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل .قال مالك:سبحان الله !من يقول هذا ؟هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد ،وقال الشافعي:بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين،وقال أحمد :نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين،و بقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في بطن أمه أربع سنين ،وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك أبو الخطاب،وإذا تقرر وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد !ولأن عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك إلا لأنه غاية الحمل ،وروي ذلك عن عثمان وعالي وغيرهما .
وإذا ثبت هذا فإن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع حمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها مقضية به ».
https://youtu.be/XOSrxmiUuXw
Aucun commentaire