كلمة تأبينية في حق الفقيد المرحوم العلامة الشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله تعالى
كلمة تأبينية في حق الفقيد المرحوم العلامة الشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله تعالى
محمد شركي
أما والراحل إلى دار البقاء من خيار أهل اليمن، وعلم من أعلامه ، فإن المناسبة تقتضي استحضار شهادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في خيار أهل اليمن ممن عاصروه ، و في من ساروا على نهجهم في تقوى الله تعالى إلى قيام الساعة ، وشهادته رواها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه كما جاء ذلك في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى وهي قوله عليه الصلاة والسلام : » أتاكم أهل اليمن ، هم أرق أفئدة ، وألين قلوبا ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ، والخيلاء في أصحاب الإبل ، والسكينة والوقار في أهل الغنم « . ففي هذا الحديث الشريف، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل اليمن بصفات يغبطهم عليها أهل جميع الأمصار ، فهم الرقيقة واللينة قلوبهم ، و الصادق إيمانهم ، وهم أهل حكمة ، وأهل تواضع وسكينة ووقار. ومن اجتمعت فيهم هذه الخصال، كانوا من خيار الناس .
ولئن ذكر القدماء أن هذه الأوصاف إنما قيلت في أهل اليمن زمن النبوية ، فإن من ساروا على نهجهم ، ولم يبدلوا ولم يغيروا ، فهم منهم مصداقا لقول الله تعالى : (( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين )) .
ففي بلد الأفئدة الرقيقة، والقلوب اللينة ، والإيمان الصادق الراسخ ،والحكمة والتواضع والسكينة والوقار، نشأ وتربى العالم الجليل السيد عبد المجيد الزنداني الذي عرف محتده وخبره ، وتشبث بسجايا وخلال سلفه الصالح ، فكان نبراس العلم والحكمة الذي شع نور علمه وحكمته في اليمن السعيد ، وأضاء بلاد الإسلام وبرا ومدرا.
ولقد كانت سجاياه انعكاسا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان بذلك مجددا لتلك الصفات التي خص بها عليه الصلاة والسلام أهل اليمن على عهده ، وقد أقبلوا على الإسلام بنفوس راضية خلاف ما كان عليه غيرهم من تردد . ولقد جمع المرحوم الزنداني بين العلم والحكمة ، وكان منهجه في الدعوة إلى الله عز وجل جمعا بينهما . ومن يتابع أحاديثه أو يقرأ ما خطت يمينه ، يجد علمه قد كست الحكمة ، وزينته . ونظرا لتلازم العلم والحكمة عنده ، فقد ألهمه الله تعالى البحث في أنفس علم ، وهو الإعجاز العلمي في كتابه الكريم ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فشغل الناس زمنا بما فتح الله تعالى به في هذا المضمار الذي كان فيه علما من الأعلام الذين اشتغلوا به الإعجاز ، وكانوا بذلك نجوما ساطعة في الدياجير ،يهتدي بهم المؤمنون لترسيخ الإيمان في قلوبهم ، ذلك أنهم كلما ألهمهم الله تعالى، وفتح عليهم بدقة فهم الإعجاز العلمي ، وبعد نظر فيه إلا وازداد المؤمنون إيمانا . وكان أهل هذا الفتح المبين خير دعاة في زمن طغت فيه المادة ،فجعلت العالم ينصرف عن الروح ، وكادت علوم المادة تصير آلهة تعبد عند كثير من المفتونين بها ، وممن ينكرون الإعجاز العلمي في كتاب الله عز وجل، وهم أبعد ما يكونون فهما لدقائقه ، وعجائبه التي لا تنقضي، وتعوزهم النهى المدركة لها ، علما بأن بعض أهل النهى من غير المسلمين سلموا بهذا الإعجاز تسليما ، ومع ذلك أصر المكابرون من المنتسبين إلى الإسلام إما تقليدا أوعادة أو نفاقا ومداراة على ألا إعجاز في القرآن الكريم، وفي السنة المشرفة تشهد عليه علوم المادة .
ولئن أشاد أهل العلم وأهل الصلاح بعلو كعب المرحوم في مضمار الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي الحديث الشريف، وبطول باعه فيه ، فلن يضيره أن ينتقده خصوم مغرضون مكابرة منهم، وإنكارا وجحودا ، وقد عرف عنهم أنهم يتخذون من المشتغلين بالكتاب والسنة تفسيرا ودراسة وإعجازا ذرائع للنيل منهما ، ذلك أن ظاهر نقدهم هم أولئك المشتغلون بهما ، وباطنه هما بالذات .
وحسب الكتاب والسنة أن كل ما تم التوصل إليه لحد الساعة من نتائج في علوم المادة ، لم ينقض حقيقة من حقائق الوحي خلافا لما سجل عن الكتب المنزلة قبل القرآن الكريم، والتي لحقها التحريف من تناقضات صارخة مع المعطيات العلمية الحديثة، كما صرح بذلك الباحث الفرنسي » موريس بوكاي » الذي انكب على دراسة القرآن الكريم بعد تعلمه اللغة العربية عن عمر يناهز الخمسين سنة عسى أن يلحق حكمه على الكتاب المقدس بالقرآن الكريم ، لكنه لم يسعه في بحثه المعنون « بالكتاب المقدس والقرآن والعلم » إلا الشهادة بكل موضوعية أنه لا وجود لتناقضات بين ما في كتاب الله عز وجل من حقائق ، وبين المعطيات والنتائج العلمية الحديثة والمعاصرة . وتكفي شهادة هذا الباحث الفرنسي على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم كما بين ذلك في بحثه القيم من خلال أمثلة كثيرة .
ولم يكن الإعجاز العلمي هو كل ما اشتغل به العالم الجليل عبد المجيد الزنداني، بل كان قبل كل شيء داعية إلى الله عز وجل بما للكلمة من معنى ، وقد كانت دعوته إلى الله ترحل معه ، وتحل حيثما حل وارتحل . وكان رحمه الله تعالى مهتما بالعالم الإسلامي قاطبة ، يناصر المسلمين في كل المعمور ، كما كان يسعى سعي الخير والإصلاح بين المسلمين رعايا ورعاة ، ولا يدخر جهدا في ذلك بالكلمة الطيبة ، وبوجهه بشوش تعلوه ابتسامة عريضة إلى آخر اللحظات التي أسلم فيه روحه إلى بارئها جل وعلا . ولا يتسع المقام في هذه الكلمات التأبينية لسرد كل ما ألف وأبدع ، ولا ما شاد من معاهد للعلم والمعرفة ، ولا ما سعى من فعل للخيرات .
ولقد كانت القضية الفلسطينية مما يؤرقه طيلة حياته ، ويشغل باله ليل نهار ، فضلا عن انشغاله بما حل بوطنه من فتن طائفية قوضت أركانه ، وفرقت أهلا شذر مذر . ولقد اضطرته تلك الفتن إلى مغادرة وطنه مكرها ، فصار يتنقل بين بلاد الإسلام داعية ومصلحا ،لا يمنعه من ذلك عيش في غربة بعيدا عن الأهل والوطن .
ولقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون مثوى حيث ثوى أعظم الأعلام من الصالحين ، نذكر منهم الصحابي الجليل أبا ايوب الأنصاري في مدينة اسطنبول بتركيا، وقد حضر جنازته المهيبة خيار العلماء الأبرار الذين شهدوا له بالصلاح وأحسنوا تأبينه ،ونسأل الله تعالى أن يجعله خيرا مما أثنوا به عليه ، وأن يغفر له ما علمه عند ربه إنه هو الغفور الرحيم . وإنا لنحسبه من الصالحين ، ولا نزكيه على الله عز وجل . اللهم اشمله بعفوك الجميل ، وبواسع رحمتك ومغفرتك ، وأسكنه فسيح جنتك في الفردوس الأعلى جوار سيد الخلق عليه الصلاة والسلام مع الصديقين، والشهداء، والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا. اللهم أخلف على يمن الحكمة بعوض عنه يحذو حذوه دعوة وتبليغا ، ويصل جميل سعيه بسعي مثله ، وخلد اللهم في الصالحين ذكره . وإنا لله وإنا إليه راجعون .
Aucun commentaire