حديث الجمعة : (( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ))
حديث الجمعة : (( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ))
محمد شركي
من المعلوم أن الله تعالى قد تعبد العباد بعبادات منها الجسدية كالصلاة، والصيام ،والحج ، وبأخرى مالية ، وهي الزكاة ، ومختلف أنواع الإنفاق في سبيله . وما ذكر الله تعالى في محكم التنزيل أمرا بإقامة الصلاة إلا وأتبعه بأمر إيتاء الزكاة . ومعلوم أن كل العبادات الجسدية، فيها مشقة على النفس بدرجات متفاوتة ، ولا تخلو العبادة المالية زكاة وصدقات من مشقة نفسية، لأن الغالب على النفس البشرية الضجر من إنفاق المال الذي تتعلق بحبه الحب الجم ، ولهذا يشق عليها أن تنفقه على غير شهواتها .
ومن بديع ،وبليغ كلام الله عز وجل، أنه صوّر مشقة إنفاق المال على النفس بالعقبة ، وهي قمة أو أعلى ما يرتفع من الأرض كالجبال والنجود وما شابه ، وهي لا ترتقى إلا بشق الأنفس . وهذه أبلغ صورة تقرب من الأذهان حال من يدعى إلى إنفاق المال المحبوب لديه ، وهي كحال الذي يرتقي العقبة الكأداء بمشقة ،غير أن هذا الأخير يشقى جسديا، بينما المنفق يشقى نفسيا . ولقد وردت هذه الصورة في قول الله تعالى في سورة البلد : (( فلا اقتحم العقبة وما أدراك من العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار موصدة )) ، هذه اثنتا عشرة آية يدور الحديث فيها عن عبادة المال المحبوب حبا جما عند بني آدم ، والذي يشق على النفس البشرية أن تنفقه على غيرها أقارب وأباعد على حد سواء بسبب شح لا تتقيه .
والإنسان بطبيعته قد يهلك المال الكثير، وينفقه من أجل إشباع شهواته، دون أن يتحسر على هلكته ، بينما يتحسر أشد الحسرة على إنفاق القليل منه على المحاويج . ولقد كان أغنياء الناس في جاهلية العرب قبل البعثة النبوية ينفقون أموالهم بإسراف من أجل الولائم الكبرى بدافع التباهي بينهم ، ويدعون بعضهم البعض إلى هذه الولائم ، ولا يدعون إليها المحاويج على اختلاف أصنافهم ، وجاء الإسلام لمحاربة هذه الآفة الاجتماعية ، فلفت أنظار الموسرين إلى المعسرين ، وحثهم على إشراكهم في المال الذي آتاهم الله عز وجل، خصوصا في ظروف الضوائق حين البأساء أو الضراء أو البأس .
ولقد جاء في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآيات البيّنات من سورة البلد هو تقريع أهل اليسار في الجاهلية الذين كانوا يتباهون بإنفاق الأموال على ولائمهم ، التي لا يصيب طعامها معهم االمحاويج ، كما أن فيها حث للمنفقين على الإنفاق . ولما كانت العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن هذا التقريع يشمل كل أهل اليسار الذين يبخلون على المحاويج ، كما أن الحث على الانفاق يشمل كل المنفقين في كل زمان ، وفي كل مكان إلى قيام الساعة. .ولقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : » شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ، ويحبس عنه الجائع « ، وفي رواية أخرى : » شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ، ويدعى إليها من يأباها » .
ولقد أشاد الله تعالى بما شبهه باقتحام العقبة ، وهو إنفاق المال على حبه بقوله : (( وما أدراك ما العقبة )) ، في هذا التعبير تعظيم لشأن الانفاق من أجل الترغيب فيه ، ثم فصل القول في طبيعة هذه العقبة المجازية التي يجب أن تقتحم كما تقتحم العقبة الحقيقية ، وتكون المشقة في اقتحامهما معا ، مشقة جسدية ، وأخرى نفسية .ولقد جعل الله تعالى اقتحام عقبة الإنفاق عبارة عن عتق الرقاب، وعن إطعام الطعام في ظرف المسغبة، وهي شدة المجاعة .
ولقد كان الدافع إلى تقديم عتق الرقاب على إطعام الطعام ، هو التخلص من إرث العبودية الثقيل الذي أدركه الإسلام ، فأراد الله تعالى القضاء عليه قضاء مبرما بتدرج ، فربط القضاء عليه بجعله من صميم ما تعبد به الناس ترغيبا وترهيبا . ولقد جاء التعبير عن الرق في هذه السورة بليغا ، ذلك أن الرقيق كانت الأغلال توضع في أعناقهم ، وهي ترمز إلى عبوديته ، لهذا رغب الله تعالى في فكهم منها بقوله : (( فك رقبة )) ، ولا تفك الرقاب إلا بإنفاق المال، سواء فكها من يملكونها أو فكها غيرهم ممن يشترونها منهم ، وفي الحالتين يوجد إنفاق المال ، وإن ذلك لعقبة كأداء . ومثلها إطعام الطعام في ظرف المسغبة، حيث يشتد الشح خوفا من دوامها ومن نفاد الطعام .
ولقد جعل الله تعالى المنفق عليهم في المسغبة صنفان : صنف اليتامى وهم الصغار الذين يهلك من يعيلونهم ، وهم أكثر من غيرهم حاجة إلى الطعام ، و لا حيلة ، ولا استطاعة لهم للحصول عليه خصوصا في ظرف المسغبة ، ووصفهم الله تعالى بأنهم من الأقارب ، قرابة الرحم أو قرابة الجوار أو قرابة الأخوة في الدين ، ثم صنف المساكين الذين لا يملكون شيئا ، وقد جاء التعبير عن مسكنتهم بليغا في كلام الله عز وجل (( مسكينا ذا متربة )) ، ولا شك أن من لا يملك شيئا يكون كمن تربت يداه، أي التصقت بالتراب ، ويا لها من عقبة كأداء أيضا، والمال أعز ما يكون على النفس في الرخاء ، فكيف يصير حبه في النفوس، والظرف ظرف مسغبة ؟
ولقد اشترط الله تعالى في اقتحام عقبة الإنفاق شروطا، جعل أولها وهو الأساس إيمان به ، وهو ما تستقيم به أمور الإنسان ، كما أنه بمثابة الموجه له في كل أحواله ، لأن به تصير مراقبته لله تعالى دائمة ، وملازمة له ، فلا يقدم على فعل أو قول إلا وهي نصب عينيه ، وشغل وجدانه وعقله . وفضلا عن صفة الإيمان ، لا بد من صفة الصبر ،وهو سلم اقتحام العقبة ، ذلك أن المنفق يصبر على حبس جزع النفس الكارهة للإنفاق من أجل عتق الرقاب أو إطعام المحاويج الضعفة والمعدمين الطعام . ومن صفات اقتحام العقبة أيضا الرحمة ، ذلك أن الإنفاق لا يكون إلا إذا سكنت الرحمة القلوب ورققت من غلظة الأكباد .
ولقد امتدح الله تعالى مقتحمي العقبة من الصابرين الرحماء، وهم يتواصون بهما فيما بينهم ، وجعلهم أصحاب يُمن كناية عن نعيم الجنة المقيم ، بينما جعل المتقاعسين عن اقتحامها أهل كفر بآيات الله ، ومن الكفر بآياته ألا تقتحم العقبة التي أمر باقتحامها ، وجعلهم أهل شؤم كناية عن الخلود في نار موصدة عليهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة إنما أملاه ظرف المسغبة الكبرى التي يعاني منها أخوة لنا في الدين قد حاصرهم العدو الصهيوني بقطاع غزة ، وهو يدكهم بالنيران ، ويمنع عنهم الطعام والشراب ، ويستعمل ذلك سلاحا من أجل إبادتهم الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع العالم بأسره، دون أن يتحرك له ضمير لتداركهم قبل هلاكهم وفوات الأوان .
وإن الآيات من سورة البلد لتنطبق تماما على أهل غزة ، فهم في حكم رقاب بسبب احتلال أرضهم و حصارهم الذي يجب أن يفك عنهم ، وهم في شر مسغبة في هذا الزمان الذي يلقى فيه الطعام في القمامات ، وفيهم أيتام تجمعنا بهم قرابة الأخوة في الدين ، وهم المساكين ذوو المتربة .
فأين اقتحامكم لهذه العقبة يا معشر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ؟ ويا ولاة أمور المسلمين الذين يقيمون المآدب الفاخرة التي يحضرها كفار وفساق ، وينفقون الأموال على اللهو واللعب، وعلى نجوم كرة القدم ، ونجوم الفن العفن حتى أن بعضهم ممن سفهوا أنفسهم أنفقوها من أجل إيقاد شموع شمعدان الصهاينة ، وكأنهم بذلك يتسلون بمسغبة إخوة لهم في الدين ، والعروبة ، ويشمتون بهم. وأي عار أشنع من أن ينشغل غير المسلمين بمأساة أهل غزة ، وينشغل المحسوبون على الإسلام عنهم ، وهم في بحبوحة من رغد العيش . ألا يحذر هؤلاء مشأمة نار موقدة موصدة حذرهم منها الله تعالى ؟
اللهم إنا نبرأ إليك من كل ذي طول وحول من المسلمين تخلف عن اقتحام عقبة أهل غزة . اللهم لا تعذبنا بسفههم . اللهم أنت ولي من لا ولي لهم، فكن لأهل غزة بما كنت به لمن جوعوا في شعب أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيض لهم يا رب أمثال زهير بن أبي أمية، يكسرون الحصار المضروب عليهم ، ويطعمونهم ، ويسقونهم ، ويداوونهم ، ويحمونهم من قصف الصهاينة الطغاة المجرمين .
اللهم لا تحاسبنا عما لا طاقة لنا به ، ولا تعذبنا بذلك، وقد تقاعس ولاة أمورنا عن نصرة إخواننا ، وحالوا بيننا وبين اقتحام عقبتهم ، اللهم انتصر فإنهم قد ظلموا ظلما كبيرا ، اللهم انتصر ، اللهم انصر .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire