حديث الجمعة : (( ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن  يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا ))

محمد شركي

من المعلوم أنه لا يوجد تصنيف للبشر سوى التصنيف الذي صنّفهم خالقهم سبحانه وتعالى لعلمه بهم ،وذلك باعتبار إيمانهم أو كفرهم به ، فوصف من يؤمنون به بصفة المؤمنين ، ووصف من يكفرون به بصفة الكافرين ، وجعل هؤلاء ثلاث فئات : فئة  لا تقر صراحة  بوجوده تعالى عما يصفون علوا كبير ، وفئة تظهر الإقرار بوجوده ،لكنها تضمر عكس ذلك، وهم المنافقون ، وفئة تقر بوجوده ،لكنها تجعل له أندادا، وهم المشركون ، سواء كانوا عبّاد أصنام  وأوثان ،يزعمون أنهم يتزلفون بعبادتها إلى عبادة الله عز وجل ،أو كانوا من أهل الكتاب الذين يزعمون  له الولد  تعالى عما يصفون علوا كبيرا . ولقد جعل الله تعالى  صفة الكفر تجمع بين  كل الفئات التي لا تؤمن به.  وغير هذه الأوصاف التي وصف بها الله تعالى خلقه مما  اخترعه السابقون أو ما قد يخترعه اللاحقون أو يتوهمونه فلا اعتبار له لمخالفته كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو مردود على أصحابه ، ومجادلتهم في ذلك مضيعة للوقت والجهد، ولا طائلة أو فائدة ترجى من ورائه .

ومن أوصاف الفئة الكافرة ،تلك التي تدعي الإيمان بالله تعالى ، ولكنها تكفر برسله ، وقد جعل الله تعالى الإيمان بهم ركنا من أركان الإيمان ، والإخلال بركن من أركانه يعد هدما له ، وهدمه يعني الوقوع عمدا  في الكفر كما جاء في قوله تعالى : ((إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويردون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )) . ولقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بمن وصفهم الله تعالى في هاتين الآيتين هم أهل الكتاب من يهود ،ونصارى . ومعلوم أن اليهود لا يقرون بنبوة المسيح عليه السلام ، ولا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أن النصارى يقرون بنبوة موسى، ولكنهم ينكرون نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى لا يقبل التفريق بين الإيمان به وبين الإيمان برسله، لأن هؤلاء هم من اختارهم سبحانه وتعالى لتعريف الخلق به إلها ،وربا لهم ، لا شريك له، ولا صاحبة ، ولا ولد ، ومن أنكر الرسول ،فقد أنكر الرسالة ، ومن أنكر الرسالة، فقد أنكر من أرسلها ، ولا توجد  عند الله عز وجل وضعية وسط أو سبيل  بين الإيمان به دون الإيمان برسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين .

ولما كانت العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل، لا بخصوص أسباب نزوله ،لأنه الرسالة الخاتمة التي جعل الله تعالى أحكامها سارية المفعول على خلقه وملزمة لهم  إلى قيام الساعة ، فإن الآيتين السابقتين يلزم  بالضرورة حكمهما كل من يسلك سبيل من نزلتا فيهم .وعندما نتأملهما نجد أن صيغة الأفعال فيهما لا تدل على مضي، بل  تدل على استقبال ،الشيء الذي يعني أن التفريق  بين الله عز وجل، وبين رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين من خلال الإيمان به والكفر ببعض رسله ،هو موقف سيتكرر مع توالي العصور إلى نهاية العالم، لهذا جعل الله تعالى حكمه ساريا في جميعها .

ولقد بدأت الآية الكريمة الأولى بذكر الذين يكفرون  بالله ورسله ، ثم تلا ذلك  بيان حقيقة كفرهم المتمثل في إرادتهم  التفريق بين الإيمان بالله عز وجل والإيمان برسله ، وإرادتهم  هي محاولة فاشلة لا محالة، لأن الإيمان بالله تعالى لا يكتمل ، ولا يصح إلا بالإيمان برسله . ويبّن الله تعالى بعد ذلك تبريرهم لهذا التفريق بأنه إيمان ببعض رسله ، وكفر ببعضهم الآخر ، وهو قول مردود عليهم ، ولا يمكن أن يساق أو يقبل منهم كحجة أو ذريعة يبررون بها اختيار وضعية وسط  أو سبيل  بين  سبيلي الكفر والإيمان ، لأن ذلك مستحيل قطعا ،  وباستحالته ، فإن الله تعالى يعتبر التماس هذه الوضعية البينية أو هذا السبيل المتوهم دليلا على الكفر حقا ، وهو ما يوقع أصحابه في العذاب المهين ، وهي أشد عقوبة يعاقب بها على أشنع جرم  الذي هو الكفر في أقبح صوره، لأنه يهدم ركنا من أركان الإيمان ، وأنى لبنيان أن يستقر إذا ما هدم ركن من أركانه ؟

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تنبيه المؤمنين إلى ما تعرفه ساحتهم في الآونة الأخيرة من تآمر على دينها ، وذلك من خلال التشكيك في ثاني مصدري الوحي،  وهو ما خلقه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي بلغنا رسالة ربه سبحانه وتعالى قرآنا ،وسنة من  خلال أقوله، وأفعاله، و وتقريراته . ولقد ظهر في الأمة الإسلامية من صاروا يجاهرون بالتشكيك في مصداقية ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جاء في كتب الصحاح التي تعتمدها الأمة، وهي محاولة يائسة ومكشوفة  تستهدف تحديدا زعزعة إيمان الأغرار وضعاف الإيمان ، والعوام ، ومصيره سيكون كمصير محاولات مثيلة سابقة  . ولقد اختار أصحاب هذا المكر الخبيث التمويه على ما يهدفون إليه بافتعال الخلاف والصراع مع أهل العلم بكتاب الله عز وجل، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتطاول عليهم ، والسخرية منهم، والاستنقاص من شأنهم ، وتحديهم من خلال مطالبتهم بالتناظر معهم ، وذلك لإلقاء في روع من يستخفون بعقولهم أنهم يعرفون ما لا يعرفه أهل العلم ، وأن الحقيقة والصواب هو ما يعرفونه هم  فقط ، وأن لهم أدلة وحججا دامغة على أن الحق  يقف في صفهم  وإلى جانبهم ، وواقع حالهم أنهم كما يقال ليسوا في عير ولا بعير ، ومع ذلك  لا يخجلون من أنفسهم ، ويغضبون، ويزبدون، ويرغون حين يوصفون بالجهل ، والأدلة عليه قائمة ، ويكفي أن أحد المتنطعين منهم لم يستقم على لسانه  مجرد النطق السليم  باسم أحد الأعلام ، وقد شهد على ذلك بما نشره في الناس حين نطق اسم الدارقُطني هكذا « الدرقطني » ـ بسكين القاف وفتح الطاء ـ  وكرر ذلك عدة مرات دون أن يخجل من جهله المركب ،لأنه يجهل النطق الصحيح بهذا الاسم ، ويجهل أنه يجهله ، ومع ذلك  فهو يخوض فيما لا علم له به ، وهو خوض  باطل ، بل زلل شبيه بزلته في نطق  اسم الدارقطني .

ولا بد من تنبيه الأمة إلى  أن هذه الحملة المسعورة المستهدفة للتشكيك فيما ثبت، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، لها مراكز في العالم ، وهي تخترع من السبل ما تريد به التفريق بين الله عز وجل وبين رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن تلك السبل المردودة عليها، ما سمي بالبيت الإبراهيمي الذي وضع له مجسم أو حيز معلوم  في بلد من بلاد الإسلام  بذريعة محاولة التقريب بين ديانات ثلاث ،أصحاب اثنتان منها لا يقران أصلا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما تشهد بذلك عليهم كتبهم التي فضح كتاب الله تعالى ما لحقها من تحريف، وعلى رأسه إنكار نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي شهد القرآن الكريم وهو آخر ما أنزل الله عز وجل بأنها وردت فيها ، فأنى يجتمع في  هذا البيت الإبراهيمي المتوهم من يؤمن بالله ورسله  جميعا ، ومن يؤمن به ،ويكفر ببعضهم ، وما هذا البعض الذين يكفر به  سوى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أن هذا البيت الإبراهيمي إنما هو حيلة ماكرة وراءها أهداف سياسية مكشوفة ،  وأمتنا على علم ويقين بها.، وهي غير خافية عليها .

ومعلوم أن الطاعنين فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذهب بعضهم إلى وصفه بالأساطير تماما كما كان وصف من أنزل فيهم الله عز وجل قرآنا  حين سمعوا  ما  بلغه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و قد فصّل، وبيّن لهم مجمله إذ لولاه ما عرف الناس ما افترض عليهم ربهم من عبادات  بكيفياتها ومقاديرها وأحوالها…. ، وهي مما صار يشكك فيها اليوم من طرف من  يريدون أن يفرقوا بين كتاب الله عز وجل ، وبين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وما زالت المؤتمرات والندوات تعقد باستمرار هنا وهناك في بعض حواضر العالم  تحت شعار  » حوار الأديان  » ،وهو حوار غير ممكن لسبب بسيط هو أنه يراد به أن يحاور المؤمنون من  ينكر الإيمان برسولهم صلى الله عليه وسلم ، وهو حوار لاغ ، ولا أساس له، لأنه لا بد أولا من أن يتساوى الإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم بين الجميع ، ولا يكون ذلك مجرد طنز يراد به استغفال المؤمنين ، وإيهامهم أن  من يحاورونهم من أهل الأديان الأخرى يؤمنون حقا برسولهم ، وكتبهم تشهد على عكس ذلك  بخلوها من هذا الإيمان المزعوم ، وواقع حالهم يشهد بذلك أيضا ، وكتاب الله عز وجل خير شاهد ، يشهد على ذلك في قوله عز من قائل : (( فإن آمنوا بمثل ما آمنت به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )) .

وإذا عرفنا حقيقة ما تخطط له  مراكز عالمية مشبوهة ،  تستغفل المؤمنين بما سمته بيتا إبراهيميا أو ما سمته حوار الأديان ، فلن نستغرب شأن من وظفتهم لتكريس هذا الاستغفال من بني جلدتنا ، وقد استأجرتهم لذلك ، وهم يرتزقون بتسويق ترهاتهم ،خصوصا وأنهم لا يجيدون مواجهة من المؤسسة الدينية الرسمية عندنا بسبب ما توفره لهم الجهات الخارجية  التي توظفهم من  ظروف حرية المساس بالمقدس دون  محاسبة أو متابعة .

وحسب الأمة ما جاء في كتاب الله عز وجل في شأن من يريدون التفريق بين كتابه، وبين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي ما أمرهم عليه السلام  بالعض عليها بالنواجذ إلا لما أخبره به  ربه سبحانه وتعالى مما يخفيه المستقبل بعد نبوته من استهداف لها يكون  مدسوسا، وماكرا، وخبيثا ، والذي هدفه النهائي هو تعطيل كتاب الله عز وجل، وإبعاده عن حياة، وواقع الأمة كي  يسهل استدراجها إلى مستنفعات العلمانية التي هي مستنفعات الفساد ،والانحلال الخلقي  ، والاستهتار بالقيم الإسلامية التي تصون كرامة الإنسان من كل ابتذال مما تسوقه هذه العلمانية المتهتكة  تحت شعارات تدغدغ المشاعر من قبيل المطالبة بالحريات المخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لا تبديل لخلقه سبحانه وتعالى من قبيل ما تريده بهم هذه العلمانية المتهتكة .

اللهم إنك أعلم بمن يريدون أن يفرقوا بينك ،وبين رسولك عليه الصلاة والسلام ، وإنهم لا يعجزونك ، ولا يخفون عليك ، فعليك بهم بما شئت ، وأنت منزل الذكر وحافظه كتابا وسنة . اللهم وصن عبادك المؤمنين مما يراد بهم من كيد ،ومكر جعلته في محكم كتابك الكريم لا يحيق إلا بأهله . اللهم إنك خير الماكرين، فامكر مكرك الشديد بمن  أراد استهداف سنة رسولك عليه السلام كمكرك السابق بمن كان قبلهم ، واجعلهم عبرة للمعتبرين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .