،،بريكولاج،،في البادية
…. محمد شحلال
دأب الناس في بلدتنا على تصريف الأيام بما توفر، من غير تكلف يذكر. وهكذا فإن الأسر ظلت وفية للبساطة في الملبس والمأكل، حتى ساد شعور بأن المساواة هي شأن بدوي بامتياز.
وبما أني عشت بضع سنوات في البادية،حيث درست المرحلة الابتدائية،فإن ذاكرتي تأبى إلا أن تختزن بعض المشاهد والأحداث، التي تعتبر تقليدا يتقاسمه كل الأهالي،ويحرصون على استمراره.
لن أخوض في كل شيء،ولكني سأتوقف عند شجون تحضير الخبز حينما يتعطل،،اللوجيستيك،،!
يتعين الإقرار بداية بأن خبز البادية بكل أصنافه ،كان يشكل الغذاء الرئيسي في حياة البدو،ولا شيء يقوم مقامه،ولذلك كنا نلتقط رائحته المميزة وهو يعالج على نار من حطب، مما جعل العديد من الناس يستغنون بقطعة خبز محمرة مرفقة بالشاي عما سواهما.
وإذا كان الخبز يستأثر بالأهمية القصوى بين سائر المواد الغذائية،فإن آلة إعداده قد حظيت برعاية استثنائية لندرة قطع الغيار،وما يترتب عن ذلك من خلل في مكون الغذاء الأساسي.
كانت الأسر تحضر الخبز عبر ما يعرف محليا ب،،بوغروم،،أو الماعون،،أو،،إمسخر،،وكلها مصطلحات أمازيغية تقابل ،،الفراح،،بتشديد الراء عند غير الأمازيغ.
كان،،إمسخر،،كما يفضل المتأدبون الباحثون عن اللباقة نعته، بدلا عن،،بوغروم،،الذي لا بد من ربط ذكره ب،،حاشاك،،بسبب إحالته على السخام وما يشي به من دلالات مستهجنة،كان هذا الماعون الذي يتحول إلى عارية هامة في الظروف الحرجة،مصنوعا من الفخار،مما يجعله عرضة للضياع عند أول خطإ في الاستعمال،حيث كانت ربة البيت تحتفظ قريبا منها عند تحضير الخبز بقطعة قماش تسمى،،أسواي،،يرفع الماعون بواسطته من على الأثافي لينزل برفق في المكان المخصص له.
كانت هذه السلعة تفد أسبوعيا خارج موسم الأمطار،بينما تغيب عن السوق عندما تسوء الأحوال الجوية،فتتضاعف معاناة الأسر التي يتعرض ماعونها لحادث يبعده عن الخدمة.
كان ضياع الماعون بمثابة سوء طالع وشؤم لمن تسببت في كسره،حيث تنهال عليها كل النعوت القدحية،إلى درجة أن بعض الرجال ،كانوا ينتقصون من قدر المرأة التي ينكسر الماعون على يدها.
. كانت منطقة،،علوانة،،بأحواز دبدو ودوار،،آث علي،،بضواحي العيون ،هما الجهتان الرئيسيتان المزودتان لبلدتنا ب،،لوجيستيك،، تحضير الخبز قبل أن يدخل الحديد في الخدمة،ليحكم بالبوار على المواد الخزفية،ويحكم كذلك بالبطالة على صناع ظلوا يحولون التراب إلى مصدر رزق حلال تساهم فيه المرأة كما الرجل.
. وبسبب تداعيات ضياع ،،الماعون،،وانعكاس تأويلاته السلبية على ربة البيت،فإن النساء ما لبثن أن ابتدعن أدوات الصيانة ليواصل ،،الماعون،،القيام بخدمته في الحالات القابلة للجبر.
. لقد استوحت النساء وسائل إصلاح العطب من الطرق التي برع فيها الرجال وهم يجبرون كسور الإنسان والحيوان، عبر تقنيات متوارثة،تتفاوت الخبرة فيها بين المتخصصين في عملية إتقان الجبر.
. أذكر أن أمهاتنا كن يحرصن على تربية الدجاج،فإذا انكسر ،،الماعون،،سارعن إلى استخدام أصفر البيض ،في رتق الكسور الحاصلة ،مرفقا ببعض القماش حتى تلتئم الشقوق،فيعود ،،الماعون،،إلى الخدمة مكرها، إلى أن تحضر قطع الغيار.
وإلى جانب البيض،،البلدي،،الذي استخدم في،،تلحيم الماعون،،فإن البدويات سرعان ما اهتدين إلى مادة أكثر فعالية في جبر الكسور، إذ تبين أن طحال المواشي يضمن فعالية أكبر في جبر الماعون وباقي الأواني الخزفية،غير أن هذه المادة لم تكن في المتناول إلا في حالات معروفة : نفوق شاة أو حضور ضيوف يفرضون،،إراقة الدم،،!
تواصل بحث ربات البيوت عن البدائل الممكنة،فعمد البعض منهن وبمساعدة الرجال ،إلى إحداث أثقاب في الشطرين المنكسرين، ثم ربطهما بأسلاك حديدية رغم أن هذا البديل ،لم يحل في الواقع دون تسرب الدخان إلى قطع الخبز التي يختل لونها بعد النضج.
لقد عانت الزوجة في بلدتنا أصنافا من المشاق،لكن ضياع ،،الماعون،،ظل حدثا مؤرقا، لأنه لايعطل تحضير الخبز فحسب،وإنما يمتد إلى سيرتها، فيخدشها تحت وقع أعراف مفتعلة، لتظل الأنثى حائطا قصيرا تصرف عبره كل الشرور التي تلحق الأسرة.
كان يوم رحيل البدو إلى أماكن أخرى،يوما مشؤوما بالنسبة لربات البيوت اللواتي يصرفن كل اهتمامهن لصيانة،،الماعون،،الذي يكون أول المشتغلين بعد نصب الخيام،وبالرغم من كل ذلك ،فإن مكان حفظ ،،الماعون،،في الخيمة،لم يعد له وجود إلا في الذاكرة،وغابت بغيابه طقوس خبز يسر لنا البقاء على قيد الحياة.
. ولعله من باب الهزل المضحك، أن أذكر بما رواه لي أحد الزملاء حين نزل ضيفا على أحد الرحل في منطقتنا،حيث كانت ربة،،الخيمة،،تحضر الخبز أمام أنظاره على أداة تشوير(السطوب)التي انتزعها الزوج بعدما ضاع الماعون في ظروف التنقل ! المهم أنه تدبر أموره ولم يعطل سجية الكرم،فتحية لكل البدو عبر ربوع الوطن.
Aucun commentaire