الوساطة ووظيفة المشيخة بين الواقع وأوهام المتسلِّفة
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:الأستاذية الروحية وسيكولوجية التشريك والتبديع
حينما لا يسلم أغلب المتسلفة بمن هم أكثر علما وإيمانا وذوقا وفهما للعقيدة والسلوك فقد تراهم يرشقونهم بالشرك والبدع والتكفير من غير تحفظ شرعي وأخلاقي، فيختارون الآيات والأحاديث الواردة في المشركين والمنافقين والكفار ثم يصفون بها أهل القبلتين من المسلمين الذاكرين باللسان والجنان والمقرين قلبا وقالبا بعقيدة التوحيد ، وهذا النمط من المتسلفة يشبه إلى حد ما أسلوبا ومنهجا أوصاف بعض الخوارج الذين ذكر البخاري في الصحيح من كتاب استتابة المرتدين حيث يقول: « وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين ».
بل إن المتأخرين أدهى وأمرهم أمر من الأولين، بحيث يحكمون بالشرك أو التبديع على كافة الأمة باستثناء شيوخهم المتسلفين الذين جمدوا العالم الإسلامي كأقطاب جليدية وقتلوا مشاعره ووجدانه بل وأيضا فكره وعقله.
يقول أحد المتسلفين: « إن بعض المحبين للغزالي –وكلنا نحبه (مغالطة)- يرون أنه لم يكن يؤمن بفكرة المشيخة بدليل أنه لم يأخذ الطريقة على شيخ معين (مغالطة أخرى، وجهل بالواقع)، وبذلك لا يكون مؤيدا للمنهج الوساطي، إلا أنا نرى إعطاءه المشروعية للسلوك الصوفي جملة… أغرق الأمة في شرك عبادة الوسائط من أصحاب المرقعات وأرباب الإشارات والشطحات… »
هكذا وبكل بساطة يسقط الشرك على المسلمين، وتتحول الصحبة في الله والتزام مبدأ الأستاذية في التربية الروحية إلى عبادة للأشخاص في وهم هؤلاء المهوسين والبطاليين، وبالتالي يضربون عرض الحائط أهم ركائز المنهج النبوي القائم على التلقين اللفظي والروحي والإيحائي والتزكية والتطهير النفسي ومبدأ فقه القلوب وعلم السر وحديث « نافق حنظلة »، والنصوص الدالة بصريح العبارة على الصحبة والمجالسة للصالحين والخلة في الدين وبالتالي إبطال مغزى قصة موسى والخضر عليهما السلام وما إلى ذلك من مقتضى فقه الأذكار وتلقي الصغار عن الكبار والخلف عن السلف.
إضافة إلى كل هذا فالكاتب يفتري على الغزالي حول مبدأ المشيخة مغفلا أو جاهلا ومتجاهلا، أنه قد ابتدأ طريقه بأخذ الذكر عن متبوع مقدم لقنه ذكر الاسم المفرد « الله » كما يصرح به نفسه في كتبه كميزان العمل وغيره، والمتبوع المقدم هو ما دون درجة الشيخ، أي أنه يكون تحت إذن الشيخ، فما بالك بالذي يأخذ عن الشيخ مباشرة، وفي هذا يقول: « إني في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذا الطريق شاورت متبوعا مقدما من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني، وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب وتجلس فارغ القلب مجموع الهم مقبلا بذكرك على الله تعالى، وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول: »الله الله » مع حضور القلب وإدراكه إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده… »
أما حول الإقرار بضرورة الشيخ في التربية والسلوك الروحي والتلقين فيرى الغزالي بصريح العبارة أنه ينبغي لمن يريد تحقيق هذه الغاية على أحسن وجه « أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته، وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرف أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه- وهذا كما يرى الغزالي – قد عز في هذا الزمان وجوده »
ومن هنا يتبين لنا الخطر والبطالة الفكرية عند متسلفة عصرنا، وذلك لما في أسلوبهم من إسقاط وتحريف وتخريف، وبالتالي افتراءات وكذب لا علاقة له بحقيقة الأمر. كما أنهم قد يمرقون عن منهج المستلفة المتقدمين وخاصة في هذه النقطة بالذات –أي المشيخة في الطريقة الصوفية- وذلك رغم ما نجده مثلا عند ابن تيمية من اعتراف بها حيث يقول: « وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الايمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر »
وقد يتعدى الأمر هنا إلى رفض الاحتفال بالمولد النبوي لنفس الدعوى التي يتذرعون بها بخصوص محبة الشيوخ والعارفين، وذلك في زعمهم أن هذا الاحتفال له صورة بدعية وكأنه تقديس للنبي ربما قد يرمون من خلاله المحتفلين بنوع من الشرك والعبادة، وذلك حينما يرفض بعضهم الاحتفال بالمولد النبوي جملة وتفصيلا، مخالفين في ذلك أيضا شيخهم السلفي ابن تيمية ونوع اعتداله في الموضوع حيث يقول رغم تشدده في تسمية العيد، « فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء، إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دعه فهذا افضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال مع أن مذهبه أن زخرفة المصحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط »
ثانيا:من الشيخ الأستاذ إلى الاحتكار بوساطة شيخ الإسلام
إن هذا التسلف يكاد يمثل مؤامرة مدبرة بينه وبين التفلسف المزيف وذلك قصد التوصل إلى ترسيخ البطالة الفكرية في الأمة وإصدار الأحكام الجاهزة والجزئية المبنية على الأخبار الشاذة والمعقدة سواء في بنائها ونسقها الدلالي لغة وتعبيرا أو في حقيقة نسبتها إلى قائلها صدقا أو كذبا، إذ التسرع في الحكم على المسلمين من غير بينة ثابتة والاتهام بمجرد الإشاعة أو التشابه في المواقف هو من نمط قذف المنافقين لإشاعة الفاحشة والبلبلة في المؤمنين والتشكيك في نقاء المجتمع الإسلامي عن طريق التضليل والتوهيم وما إلى ذلك مما هو مقتضى البطالة الفكرية والأخلاقية العقدية معا، ومن ثم فيكون الواجب الإيماني هو قول الله تعالى حين ورود الإشاعة « لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ».
لكن المتسلفة في عصرنا حينما افتقدوا هذه الطهارة الباطنية الناتجة عن تزكية الذات وتزكية الغير بالمنهج الصوفي السني النبوي الأصيل لجئوا إلى اقتناص الأخبار الشاذة أو الوقوف عند سطوح الحروف بنية مسبقة وهي الاجتهاد الكلي المذموم لتحصيل الصرف الذاتي للجمهور المسلم المتعطش إلى غذائه الروحي عن أهل الاختصاص. يقول المتسلف وهو متلبس بأوهام المتفلسف روحا ونصا « هكذا كانت الوساطة الطرقية تصنع المريدين وتربي الأتباع وكأنها تمارس عليهم نوعا من غسيل الدماغ أو ما عبر عنه في الفكر المعاصر باغتيال العقل، إشارة إلى عملية قتل الحاسة النقدية في الفكر والمجتمع… ».
هكذا إذن يلتقي المتسلف مع المتفلسف المزيف في مواجهة المتصوف واعتبار مجاله تعسفا بالعقل المستقيل كما قد اصطلح عليه البعض، وهكذا أيضا يتطابق المتأسلم مع المتعلمن في ضرب أرقى وأسمى الركائز الأخلاقية والروحية للأمة الإسلامية، فيضلل الأمة بسبب أنها سلكت المذهب الأشعري في العقيدة والتصوف السني في التربية والسلوك، وتستبدل الصحبة في الله بمصطلح التسلف الذي وضع كواسطة الوسائط، وأسند إليه مصطلح ليس مجرد شيخ المريد وإنما شيخ الإسلام وهو مصطلح مبهم ومبتدع حسب مقاييس المتسلفة. إذ فيما يبدو لنا أن أصله في الرواية والمعنى غير سليم، بحيث كما يروى أن المنافقين من استعملوه في بداية الأمر –إن صح استدلالنا- وذلك فيما يقول السيوطي عن أسباب نزول الآية « وإذا لقوا الذين آمنوا »: عن ابن عباس قال: « نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام… »، إذ الإشكال المطروح هو في إضافة « شيخ إلى الإسلام »، وإلا فمصطلح الشيخين كان معروفا عند المسلمين ومتفقا عليه.وإذا أردنا المزايدة كمراء وجدال فينبغي القول بأن مصطلح شيخ الإسلام هو من إطلاق رأس المنافقين منذ البداية ،فهلا اجتنب هذا المصطلح لئلا يتوافق مع عباراتهم ونواياهم؟الأمر فيه نظر.
وفي طرحنا لهذا المصطلح وإثارة النقاش حوله له ارتباط بموضوع البطالة الفكرية عند المتسلفة، وذلك لأنهم يقرون بالأستاذية التاريخية المتأرجحة بين الثبوت وعدمه ويرفضون الأستاذية المشخصة واقعيا وميدانيا، كما أنهم قد يرفضون الكرامة المعاصرة ويدعون التسليم بالكرامة المأثورة حسب مقاييس مشايخهم، لحد وصف البعض منها إذا صدرت من غيرهم بالخرافات والأساطير، ملتقين في ذلك مع العقلية البطالية لكثير من العلمانيين فيما يخص القضايا الغيبية والماورائية، ناسين أن الطعن في الكرامة مقدمة للطعن في المعجزة وأن بقاءها دليل مقوي ومؤيد للمعجزة كهمزة وصل لفهم حقيقتها وإمكانها في الحكم العقلي والشرعي، إضافة إلى هذا فإن تقليد المتسلفة لمشايخهم في هذا المجال الروحي الميداني بمثابة تقليد القديد كما يصفه الصوفية ولم يفهم معناه المتسلفة.
Aucun commentaire