مقنعة السائل عن المرض الهائل:مكاشفة سوسيوثقافية الجزء(6)
مقنعة السائل عن المرض الهائل:مكاشفة سوسيوثقافية الجزء(6)
بقلم: د – خالد عيادي
و يرى « لسان الدين بن الخطيب » أن سبب ورود هذا المرض على الإنسان يكون إما « ابتداء »([1]) أو « انتقالا »([2]) نظرا « لاستعداده ». و »الاستعداد » مصطلح طبي يوافق في الوقت المعاصر ضعف « المناعة » . ولقد تكرر مصطلح « الاستعداد » في هذه المقالة الطبية، بحيث عده الكاتب من البراهين على ثبوت العدوى.ومعناه كما يقول هو: » تهيؤ شيئ لقبول شيئ بمناسبته ومشاكلته له حتى يلبس صورته ،على مسامحة في التعريف.فإذا اتفق أن يكون المزاج الشخصي قريبا في عرضه من مزاج الوارد « السمي » لقبوله قبله، ومال إليه، من غير مدافعة ولا ممانعة ،كما يثب الزئبق على الذهب لشبهه..فيغوص فيه و يتحد به، ويسري في الأمشاج والرطوبات بسريان الروح، فيفسدها إفساد « السموم ».وإن اتفق أن يكون بعيدا منه في عرض مزاجه قاومه مقاومة الضدية، ومانعه وتعاصى عليه قبوله. فعلى بعد ما بينهما في عرض المضادة تكون الممانعة والموافقة.وقد يكون هذا « البعد » خلقة للمزاج، أو يحصل بالعلاج. »([3])
ويرى « لسان الدين بن الخطيب » بأن سريان ذلك « الطاعون » في الناس كان يتم عن طريق « العدوى » و »الانتقال ». أو عن طريق المخالطة و هو الأكثر([4]). وتلك كانت نظرة طبية وعلمية استباقية . وهذه النظرة أصبحت في عصرنا من المعلومات الطبية المجمع عليها، يعرفها أهل الاختصاص، ويدركها العامة. وفي ذلك توعية هامة وصحيحة للمجتمع بخطر »العدوى ». وكأن التاريخ يعيد نفسه ،أو توقف الزمن في هذه المعضلة منذ القرن الثامن الهجري، فتنتشر »العدوى » مرة أخرى من بلاد « الصين ». وهذا من عجائب التاريخ .وأنا أسوق لك ما قاله »لسان الدين بن الخطيب » تحديدا من دون تعليق: قال في بيان أصل ذلك الوباء: »إن قيل ما عندكم في أصل هذا الوباء ومذ كم ظهر في الأرض، قلنا هذا الواقع ابتداء بأرض « الخطا »([5]) و »الصين » في حدود أربعة وثلاثين وسبع مئة. حدث بذلك غير واحد ممن يوثق به من أولي الرحلة والجولان كالشيخ القاضي الحاج أبي عبد الله بن بطوطة. »([6])
الفقهاء على مذهبين تجاه أحاديث نبوية صحيحة لكنها متعارضة في الظاهر. فمنهم من ينفي حصول « العدوى » مطلقا، استنادا لأحاديث منها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : « لا عَدوَى وَلا طِيرَةَ « .([7]). وحديث أبي هريرة: » لا عَدْوَى وَلا طِيرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَر »َ.([8]) أما المثبتون « للعدوى » فالشاهد عندهم حديث « أبي هريرة » الصحيح الصريح والمليح. »لا توردوا الممرض على المصح »([9]). وقد اختار « لسان الدين بن الخطيب »مذهب القائلين بثبوت « العدوى » ، فقطع بوجود « العدوى »، وأنها حاصلة. بل وهاجم المفتين من أصحاب اللجاجة في عصره ممن كان يقول بعدم وجود « العدوى »، في رد فقهي وكلامي قاطع وحاسم.ففي نظره أن هؤلاء المفتين يقتلون المسلمين بأقلامهم ،عن غير قصد منهم،مثلما يقتل « الأزارقة » من الخوارج الناس بسيوفهم. وفي ذلك يقول : »فقد سلط الله عليهم من بعض المفتين من اعترضهم بالفتيا اعتراض « الأزارقة » من الخوارج للناس بالسيوف، فسالت على شبا أقلامهم من النفوس والمهج ما لا يعلمه إلا من كتب عليهم الفناء بسببه سبحانه، وإن كان بريئ القصد من المضرة ، وقوفا مع ظاهر لفظ الحديث. »([10]) .
…………………………………………………………………………………………………………………………………..
[1] ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب- ص:68
[2] ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب- ص:68
[3] ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب-ص 71
) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب- ص:68[4]
[5] ) أرض الخطا- بكسر الخاء- شمال الصين أو شمال غربها.تحدث عنها « ابن بطوطة » في رحلته وقال: بأنها أحسن بلاد الدنيا عمارة.تحدث عن أرض الخطا والصين في فصل: »ذكر سلطان الصين والخطا الملقب بالقان » .ص-465- تحفة النظار- الناشر – مؤسسة هنداوي-2017-
[6] ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب- ص:75-76
[7] ) رواه البخاري تحت رقم (5776) ومسلم تحت رقم (2224)
[8] ) ورواه البخاري (5316)
[10] ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب- ص:74
1 Comment
حفظكم الله مولانا وأستاذنا الكريم. لعل أفضل خلاصة يخرج منها القارئ لهذه السلسلة الطيبة أن تراثنا العربي عظيم وزاخر في مجالات عديدة لا نعرف عنها الكثير كالطب والهندسة والفلك… إضافة إلى اللغة وعلومها والتي برعت الأمة الإسلامية وحضارتها فيها.
بارك الله فيكم ومزيد من العطاء العلمي والفكري….
ننتظر المزيد.