حديث الجمعة : (( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ))
حديث الجمعة : (( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ))
محمد شركي
من المعلوم أن اختلاف الألسنة بين بني البشر إرادة إلهية لا دخل لهم فيها ، وقد جعلها سبحانه وتعالى دليلا على قدرته الدالة إلى وحدانية ألوهيته وربوبيته مصداقا لقوله عز من قائل : (( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين )) . وعند التأمل في هذه الآية الكريمة نلاحظ الجمع بين خلق السماوات والأرض، وهو خلق عظيم يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى وبين خلق البشر بألسنة وألوان مختلفة، وهو أيضا خلق عجيب يدل على عظمته جل في علاه . ولقد جاء التذييل في الآية الكريمة : (( إن في ذلك لآيات للعالمين )) منبها إلى ضرورة تأمل العالمين في عظمة وعجيب خلق الخالق سبحانه وتعالى .
ولا يوجد في قوله تعالى : (( اختلاف ألسنتكم وألوانكم )) ما يمكن أن يخطر معه على بال أحد التفاضل ،لأن الاختلاف منطقا وواقعا لا يوحي بالتفاضل ، ومع ذلك يأبى كثير من البشر إلا القول بتفاضل الألسنة والألوان .
ولا يوجد ما يجعل لسانا يفضل آخر إلا يقدر ما فيه من نفع يعود على من ينطق به . وتختلف المنافع التي تحصل باستعمال الألسنة إلى مادية ومعنوية ، أما المنافع المادية فهي ما ارتبط بعيش الناس طعاما، وشرابا، ومسكنا ،وملبسا … إلى غير ذلك مما له صلة بحياتهم المادية ، وأما المنافع المعنوية ،فهي عكس المادية مرتبطة بحاجات الناس إلى أمور فوق ما يحتاجون إليه ماديا أو لنقل ما يحتاجونه في حياتهم الروحية، لأن تلازم ثنائية المادة والروح عندهم ضرورة لا يجحد بها إلا جاهل أو مكابر . وإذا كانت حاجات البشر المادية لا خلاف فيها بينهم ، فإن حاجاتهم الروحية فيها اختلاف كثير ، ولهذا تختلف ألسنتهم المعبرة عن اختلاف تلك الحاجات الروحية .
وإذا كان الله عز وجل رحمة بالبشر قد خصهم برسالاته التي بلغها عنه رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين بألسنتهم المختلفة ، فإن هذه الألسنة التي نقلت إليهم رسالاته تبقى باعتبار اختلافها مع تلك التي لم تنقل شيئا من تلك الرسالات غير قابلة للتفاضل ، لكنها بنقلها للوحي الإلهي صار لها فضل سببه ما حصل بذلك الوحي من نفع للبشر. وكان دأب البشر عبر التاريخ أن يتعلموا إلى جانب ألسنتهم الأمهات ألسنة أخرى لهم فيها منافع إما مادية أو معنوية ،ومن هذه المنافع الروحية كمنفعة الوحي المنزل عليهم من خالقهم سبحانه وتعالى لهدايتهم إلى ما به تستقيم دنياهم وآخرتهم .
وينقل لنا التاريخ أن عادة البشر في كل عصر أن يقبلوا على ألسنة غيرهم ممن كان قبلهم أو كان معاصرا لهم من أجل منافعهم ومصالحهم ، وكان ذلك سببا في انتشار المنافع المادية والمعنوية بينهم التي تنقل عن طريق الألسنة .
ولما كان الصراع بين البشر طبيعة متأصلة فيهم ، فإن المغلوب منهم كان يكره على تعلم لسان الغالب ، ووراء ذلك منفعة للمغلوب ،لأنه بتعلم لغة الغالب كان يأمن على نفسه من شره أو مكره ، لهذا قال بعضهم : » من تعلم لغة قوم أمن مكرهم « ،وبالمناسبة هذا ليس حديثا نبويا كما يعتقد كثير من الناس .
والراجح أن المنافع والمصالح على اختلاف أنواعها مادية ومعنوية ،هي الدافع وراء تعلم الألسنة . ولا يكون الإلحاح على تعلمها إلا بقدر ما فيها من منافع ومصالح ، فإن قلت منافعها ومصالحها أعرض الناس عن تعلمها .
وقد تحصّل بلسان من الألسنة منافع ومصالح دون أخرى ، وهذا داخل في طبيعة الاختلاف بينها كما جاء في قول الله عز وجل . وقد يقبل الناس على منافع أو مصالح مادية في لسان ، بينما يقبلون على أخرى معنوية أو روحية في غيره .
والإشكال الحاصل لدى بعض الناس هو عدم استساغتهم لهذا الأمر حيث يصرون على أن اللسان الواحد يجب أن تتحقق به المنافع والمصالح المادية والمعنوية أو الروحية في نفس الوقت ، وهو أمر ممكن ،لكن في بعض الألسنة دون غيرها .
ولنأخذ كمثال اللسان العربي الذي أنزل به رب العزة جل جلاله آخر رسالة منه إلى البشرية قاطبة ، فهو لسان يتعلم من أجل المنفعة المادية والروحية معا . وقد تفرض الحاجة إلى المنفعة المادية تعلم لسان غيره، لكن هذا الأخير لا يمكن أن يسد مسد اللسان العربي في تحقيق المنفعة الروحية . ولهذا السبب تعلم غير العرب اللسان العربي لحاجتهم إلى تلك المنفعة الروحية ، وطلبوا المنفعة المادية في ألسنتهم أو غيرها من غير اللسان العربي ، ووفقوا بين ألسنتهم و تعلم اللسان العربي ، وهو توفيق اقتضته مصالحهم وحاجاتهم المختلفة .
ومن العجب أن معظم من اهتموا باللسان العربي هم من غير العرب كما هو الشأن بالنسبة لواضع نحو اللسان العربي سيبويه الفارسي، لأن حاجته إلى معرفة مضمون الرسالة الخاتمة المنزلة باللسان العربي جعلته يهتم ويشتغل بمعرفة هذا الأخير، وهي حاجة روحية دعت إليها الضرورة حين آمن بتلك الرسالة ،ولم يمنعه ذلك من طلب حاجاته المادية بلسانه الفارسي الذي كان يوظفه أيضا في نقل الحاجة الروحية المنقولة عبر اللسان العربي إلى قومه الفرس . وليس سيبويه الوحيد الذي اشتغل بالكشف عن أسرار طبيعة و بنية اللسان العربي بل يوجد غيره أيضا وهم كثر من غير العرب . ولقد انطلقوا في بحوثهم من سماع اللسان العربي من أهله، واكتشفوا ما لم يكن الناطقون به سليقة يلقون إليه بال كما هو حال كل ناطقين بلسانهم سليقة . ولم تمنع العصبيات الشعوبية غير العرب من اهتمامهم باللسان العربي لأن حاجتهم الروحية إليه هي التي حملتهم على تعلمه والكشف عن طبيعته . ولقد نجح هؤلاء في نقل العلوم والمعارف من ألسنتهم، ومن غيرها إلى اللسان العربي ، فصار هذا الأخير يطلب للحاجة الروحية باعتباره لسان الرسالة الخاتمة ، وباعتبار ما نقل إليه من علوم ومعارف من غيره من الألسنة دعت إليها الحاجة .
ولقد ظل اللسان العربي لمدة زمنية طويلة لسان المنافع والمصالح المادية والمعنوية والروحية بالنسبة للعديد من الأجناس البشرية على اختلاف ألسنتها تماما كما هو حال الألسنة التي صارت في زماننا هذا تتعلم من أجل المنافع والمصالح المختلفة .
ولا يوجد عجز في الألسنة المختلفة بطبيعتها لنقل المعارف والعلوم بل العجز في أهلها والدليل على ذلك أن اللسان العربي الذي كان يقتصر أهله قبل نزول الرسالة الخاتمة به على نقل أشعارهم به فقط، صار ناقلا لمختلف العلوم والمعارف بجهد من نقلوها به من غيره وإليه .
الداعي إلى حديث هذه الجمعة هو تنبيه كل من يتعصب إلى لسانه ، ويروم فرض تعلمه على غيره عن طريق الإكراه دون التنبه إلى أن تعلم الألسنة رهين بالنفع المرجو منها . وكل من يحاول فرض تعلم لسانه على غيره دون أن يقنعه بما وراء ذلك من منافع ومصالح مجرد حالم، وعليه ينطبق قول الله عز وجل : (( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه )) . وخير لمن يريد إكراه غيره على تعلم لسانه أن يجتهد في اقناعهم بما وراء تعلمه من منافع ومصالح ، وأن يبرهن على ذلك بالواقع والملموس بحيث لا يستطيع غيره الوصول إلى تلك المنافع والمصالح إلا بتعلم لسانه كما هو حال الألسنة اليوم التي استطاع أهلها أن يفرضوا على غيرهم الاقتناع بضرورة تعلمها إن هم أرادوا الاستفادة من حمولتها التي بها تتحقق منافعهم ومصالحهم .
ومن الجدل البيزنطي العقيم الذي لا طائل من وراءه أن يظل النقاش بالنسبة للبعض حبيس فكرة التفاضل اللساني الذي حسم في أمره رب العزة جل جلاله بفكرة الاختلاف .
وأخيرا نقول إن الناس لا يقبلون على تعلم لسان مهما كان بسبب لون أو عرق أصحابه بل يفعلون ذلك لما يتحقق لهم به من مصالح ومنافع مادية ومعنوية وروحية ملموسة ،وهي ليست خيالية متوهمة أو افتراضية .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire