صدى السنين ـ فرسان الأنفاق 2 ـ للكاتب قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 5 ـ
المدير والغليون والقبعة و رابعهم كلبهم..
وعندما أخبرنا المسؤولون الإداريون بالإعدادية بأنه على الجميع أن يؤدي درهما واحدا لمحاسب الثانوية… فقد نسيت هذا الأمر في حينه لأني لم أكسر أي باب، وبالأحرى سيكون ظلما كبيرا وسيكون من الإجحاف تأدية هذا الدرهم…
إلا أن الأمور تطورت… فتوصلت باستدعاء من المدير الذي كنا نتحاشى الالتقاء به حتى في الشارع نظرا لشراسته…
كان مدير الثانوية يشبه إلى حد بعيد، ممثلي أفلام « الوسترن » الأمريكية ببنيته القوية، وعضلاته الضخمة، وقبعته المائلة، وغليونه الذي يعض عليه بأسنانه، وصوته المجلجل، الذي كانت تغلب عليه بحة مصطنعة توحي للمستمع أن الرجل جرب الحياة بمرارتها وحلاوتها، وأنه يتناول الخمور بكثرة، ولا يتوقف عن التدخين، وأنه صلب الشوكة ولا تنفع معه الألاعيب ولا الأكاذيب…
وقبل أن أبدأ في تخطي الأدراج القليلة لأصل إلى مكتب السيد المدير بالطابق الأول… فقد فاجأني بوجوده في ساحة الثانوية وكان يداعب كلبه الضخم من السلالة الألمانية المعروفة بالراعي الألماني.
بادرني بلهجته القوية وقد فاحت منه رائحة تزكم الأنوف: ماذا تريد؟!
كان الكلب قد اقترب مني كثيرا، وكان يحملق في عيني ثم ينظر إلى صاحبه وكأنه يستفسره ماذا سيصنع بي ؟!
مددت ورقة الاستدعاء إلى المدير، والكلب يراقب حركاتي بفضول لا يتصور…سألني المدير وهو ينفث في الهواء سحابة من الدخان من منخريه ومن فمه وقد ألقى نظرة إلى الورقة التي بيدي:
ـ يبدو أنك رفضت أداء مساهمتك في إصلاح الخسائر التي ألحـقـتموها بالمرافق الصحية الخاصة بأقسام الملاحظة ؟! أليس كذلك ؟!
لم ينتظر جوابي.. ونزل بيده اليسرى بصفعة مباغتة على وجهي حتى خلت أن البرق قد ومض بين عيني … لقد فاجأني بهذه الضربة التي لم أكن أنتظرها منه ! حاولت الاعتذار… حاولت أن أقول شيئا.. ولكن هيهات … لقد أحسست وكأن رئتي تكاد تخرج من فمي.. خاصة وأن « الراعي الألماني » بدأ يقترب مني أكثر فأكثر وبدأ في التكشير عن أنيابه..وبدأ في إصدار صوت وكأنه يتأهب لينط علي… وقـد أعجب سيادة المدير بهذا المنظر الذي أبان فيه كلبه عن ولاءه وإخلاصه له… فبدأ يشجعه على مواصـلة حركاته المستفزة!…وبدأ الحيوان في الاقتراب منى…وكمن يستجمع قواه للقيام بشيء معين..أصدر نباحا حادا ثم أردفه بأزير قوي، كأنه أسد يتلذذ بضعف فريسته قبل أن يهجم عليها ليفتك بها… لقد أصابني ذعر شديد من هذا الكلب الذي يبدو أنه لم يكن في نيته إيذائي بقدر ما أراد تخويفي… وبإشارة من صاحبه تراجع عنى غير بعيد محملقا في صاحبه ومنتظرا تعليمات أخرى لينفذها…
انشرح السيد المدير لهذه المناورة الجريئة التي قام بها كلبه، فأرسل قهقهاته المتعجرفة وسط الساحة، وأمر حيوانه بأن ينصرف… ثم توجه إلي بخطابه:
لم يلحق بك أي أذى ؟! أليس كذلك ؟! إنه كلب طيب لا يحب الأشرار ..لقد شم فيك رائحة الأشرار هيا أنصرف…
ركضت في اتجاه المدرسة وفصائلي ترتعش والعرق البارد يتصبب من كل أجزاء جسمي … ولست أدري هل كان من حسن الصدف أو من سيئها بأن لا يشاهد هذا الفلم إلا أحد الموعدين الذي ربما كان يتلذذ بهذا المشهد هو الآخر.
كلب المدير لم يلحق بي أي أذى، ما عدا هذا الذعر الذي أصابني منه …
***
علاقتي بالكلاب
كنت أكره الكلاب منذ صغري المبكر …منذ أن تعرضت للهجوم ثلاث مرات من طرف كلاب أصدقاء طفولتي حيث كان الهجوم الأول من طرف كلبة عمي مسعود التي باغتتني بعضة في مؤخرتي عندما كنت في انتظار « بالقاسم » للذهاب إلى الكتاب. وقد شعرت حينئذ بألم شديد لم يخففه عني إلا ذلك المرهم الذي صنعته والدة بلقاسم في الحين وطلت به الجرح الذي أحدثته أنياب الكلبة.
أما كلب عمي صالح فكان قويا ومتوحشا، وكان يهاجم حتى الكبار..وفي يوم من الأيام بينما كنت في انتظار « فراجي » فإذا بالكلب يهاجمني بكل وقاحة، وقد حاولت أن أطلق ساقي للريح إلا أن الكلب كان أسرع مني فغرز أنيابه الحادة في عضلة المنطقة الحساسة بين رجلي من الجهة الخلفية بعيدا عن خصيتي ببعض مليمترات.
أما العضة الثالثة فكانت من طرف جرو صغير كان والد « أحمد » يربيه ليساعده على حراسة الدار والبهائم.. وكنت في انتظار أحمد لنسافر سويا إلى مدينة دبدو لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية … وقد تسلط علي هذا الجرو الذي لم يكن قد أنهى نصف سنته الأولى ولكن شجاعته وجرأته جعلتاه يقفز علي مباشرة، وعندما حاولت إبعاده بيدي فقد عض على الوسطى من أصابع يدي اليسرى. وقد أحدثت أنيابه جرحا بليغا على طول إصبعي، ونظرا لضيق الوقت وظروف السفر فقد أهملت الجرح ولم أهتم به إلا عندما أحسست بحمى كبيرة تنتابني وأنا في أوج مرحلة الامتحانات الحاسمة…
هذه الكلاب الثلاثة كانت لأصدقائي الثلاثة الذين عشت معهم مرحلة طفولتي بمدرسة « أولاد اعمر »… وقد أبت هذه الكلاب إلا أن تترك بصماتها في جسمي ربما تعبيرا لحب أصحابها لي.
***
شغفي بمطالعة الكتب
كان تألقي في القسم مصدر سعادتي الكبيرة، وراحة بال لم أشعر أبدا بمثلها… وربما أراد الله سبحانه أن يعوضني سنوات القرية وتعثري في الشهادة الابتدائية وقسوة المعلم مبروك… كل هذا الشقاء أصبح قطعة من الماضي أصبح من الذكريات الأليمة التي لا تستحق حتى التفكير فيها…
أقبلت على الدراسة بنهم شديد، وأصبحت مطالعة الكتب بالعربية والفرنسية هوايتي الأولى، بل وشغلي الشاغل … إذ لم يعد هناك ما يشغلني عن المطالعة ومراجعة الدروس وحفظها…
كانت شقيقتي « فاطنة » لا تتوانى في تقديم خدماتها إلي، ولم تتركني أبدا أحس بأي ضيق أو جوع أو وسخ في جسمي أو هندامي، وقد عوضتني بحنانها ولطفها، حنان عائلتي ووالدتي بالخصوص… وكانت تقوم بهذه الخدمات من كل قلبها… وكانت تفرح كثيرا لنجاحي في دراستي وتسألني يوميا عن النقط التي أحصل عليها… وكنت بدوري أتعمد تسليتها من حين لآخر.. أختي لم ترزق بذرية.. وكانت تتعذب في صمت رهيب.. وكنت في بعض الأحيان أفسر اهتمامها البالغ بي، بهذه القضية..فقد أنزلتني فعلا منزل ولدها..وكنت بدوري أتمنى أن أعوضها بعض النقص الذي أراده الله لها، ولا دخل ليد الإنسان فيه،..
كان من الصعب الحصول على الكتب التي تشفي الغليل والتي تليق بسني وتساعدني على المعرفة والتفتح… وكان هذا الوضع السبب الرئيسي الذي جعلني أقرأ كل ما تقع عليه يدي من مجلات وروايات، التي غالبا ما كنت أحصل عليها من زملائي أو من المدرسين وكان عدد الأشخاص من معارفي، الذين يحبون المطالعة ويقتنون الكتب يكاد يكون محدودا… وقد استطعت أن أتغلغل شيئا فشيئا في هذا الوسط أو هذا « النادي » المجهول عن طريق أصدقائي القلائل وعن طريق بعض الأساتذة كذلك….
كما اكتشفت طريقة بسيطة في الحصول على بعض الكتب، إذ تعرفت على صاحب مكتبة صغيرة وقديمة، الذي سمح لي بقراءة كل ما لديه من كتب ومجلات مقابل دراهم قليلة… لقد اشتريت منه رواية بدرهم واحد وقرأتها في نفس اليوم فأرجعتها إليه وأخذت غيرها وعندما أكملت الكتاب الثاني اعترفت له بأني لا أملك نقودا إلا الدرهم الوحيد الذي أعطيته إياه في بداية الأمر.. فقهقه وقال لي:
– إوا درت أمعاك الفلوس بكري !!
ولم تكن إلا أيام معدودات حتى أتيت على جل ما كان معروضا بحانوته الصغيرة…
وقد بادرته يوما مداعبا إياه:
– يا أبا عبد الله لاشك أن هناك من الكتب ما تخـفيه في دهاليس الحانوت…
– لا والله ما عدا بعض الروايات البوليسية بالفرنسية وهي قديمة، ومنذ رحيل أغلب الفرنسيين فلم يعد أحد يسأل عنها…
كان صاحب المكتبة وديعا ولطيفا… وقد اشتريت منه كل الروايات البوليسية التي فاق عددها العشرين كتابا بدراهم معدودة وبالتقسيط المريح…
ما عدا هذا، فإن بعض الكتب كانت تعرض للبيع خلال السوق الأسبوعي الذي يلتئم يوم الأحد، وكنت أقف عند هذه الكتب أتأملها وأتألم لكوني لا أستطيع شراءها.
وطبعا فإن كل الدراهم التي كانت تقع بيدي كنت أستثمرها في شراء الكتب، كيفما كان نوعها..
وأذكر أني تحايلت في يوم من الأيام ـ سامحني الله ـ على أختي..عندما بعثتني ، لأشتري بعض الخضر.. فصادفت عند الكتبي كتابا قديما ولكنه قيما وهو « مقامات الحريري » الذي اقتنيته بثلاثة دراهم، والذي ساهم في تنمية رصيدي اللغوي بشكل ملفت للانتباه.. وعندما أخبرت شقيقتي بذلك وبعد فوات الأوان فقد كان جوابها..
ـ لن أبعث بك أبدا إلى حيث توجد الكتب…
وكان من حسن حظي، أن ابن عمي حميد سيصاب بعدوى مطالعة الكتب، وبما أن حالته المادية كانت أكثر يسرا من حالتي، فقد ساعدني على مطالعة عدد لا بأس به من الروايات والكتب الأدبية خاصة منها مؤلفات المنفلوطي، وجبران خليل جبران، وجرجي زيدان… وبعض المؤلفات لمشاهير المؤلفين مثل همنغواي وهوجو وداستايوﭭسكي…إلخ
والغريب في الأمر أن نهمي بمطالعة المزيد من الكتب لم يزدد إلا استفحالا ! وكم مرة سهرت الليالي الطوال لأنهي مطالعة كتاب أو آتي على نهاية رواية مشوقة… كنت قد وعدت صاحبها بأن أردها إليه في اليوم الموالي… وحتى أبقى وفيا بالوعد الذي قطعته على نفسي فإنه كان يسوؤني جدا أن أرجع الكتاب إلى صاحبه دون إتمام قراءته…
وفي يوم من الأيام وأنا في أوج مرحلة الامتحانات الفصلية، فقد بلغ بي الإدمان على القراءة إلى درجة أني قررت الاستمرار في مطالعة رواية « بائعة الخبز » لمؤلفها الكاتب الفرنسي « كزافيي دو مونتبان » ، طوال الليل لأنهيها عند الفجر وذلك على حساب الاستعداد لامتحان في مادة العلوم الطبيعية، ويبدو أن الحظ قد واكبني لأحصل على درجة جيدة في الإمتحان، رغم عدم مراجعتي لهذه المادة …
وقد كانت هذه الحالات كثيرة في حياتي… مما أثر سلبا في بعض الأحيان على مستوى معدلي في القسم، فقط لأن الإدمان على المطالعة بلغ بي درجة، لم أعد أتحكم معها في نفسي.
***
سكني المريح..وإبداعي في مادة الإنشاء ..
كان فصل الشتاء باردا جدا في جرادة، وغالبا ما كانت الثلوج التي تغطي قمم جبال سيدي بالقاسم لا تذوب بسرعة وتستمر لوقت طويل، في بعث بردها القارس الذي يصيب الأصابع والأرجل بالشلل… وكانت هذه الثلوج تعم كل أرجاء المدينة والدواوير المحيطة بها لتغطي سواد الفحم الحجري لبعض الوقت، ببياضها الناصح الذي سرعان ما سيعلوه الغبار الأسود المنتشر في جو المدينة الجبلية المنجمية… وأمام قسوة البرد فإن السكان لا يجيدون بدا من الإقبال على تدفئة منازلهم بإشعال الأفران الحديدية التي يملأونها بقطع من الخشب ومن بعدها بحجرات أو كويرات الفحم. وبمجرد ما تبدأ قطع الفحم الحجري في الاحتراق، حتى يحمر الفرن الحديدي ويبدأ في بعث حرارته القوية في محيطه مما يجبر المصطلين من حوله على الابتعاد عنه شيئا فشيئا…
إن قسوة البرد تجعل مستعملي الفحم الحجري يصبرون على روائحه الكريهة وعلى دخانه الكثيف والثقيل والذي لا تبعده إلا الرياح القوية …
كان سكن شقيقتي يتكون من غرفتين خشبيتين ومن خيمة نصبت أمامهما، وكانت الغرفة الكبيرة تشكل بيتا للنوم لأختي وزوجها، بينما الغرفة الصغيرة التي يوجد بها الفرن الحديدي والتي كانت تستعمل كمطبخ في فصل الشتاء فقد اتخذت منها قلعتي المحصنة…أما الخيمة التي أصبحت لا تستعمل إلا في فصل الصيف، فقد أصبح استعمالها محدودا.. وأصبح واضحا أن عمرها بات محسوبا…
وجدت في الغرفة الخشبية الصغيرة، المسكن الرائع والمثالي الذي كنت أحلم به خاصة وأنها كانت تحتوى على طاولة خشبية قديمة اتخذت منها مكتبا. فبمجرد الانتهاء من تناول العشاء، فتنصرف أختي وزوجها، حتى أنفرد بدفاتري وكتبي فأدخل في فراشي وأبدأ في مطالعة ما تقع عليه يدي من كتب أو مجلات، بعد أن أكون قد أنجزت التمارين والوظائف المنزلية المطلوبة مني…
وكانت مادة الإنشاء سواء باللغة العربية أو الفرنسية، تأخذ من وقتي حصة الأسد، بحيث كنت أهيئ الإنشاء طوال أيام الأسبوع، وكنت أفكر فيه وأنا أمشي في الطريق، فأركب قطعا نثرية طويلة حول الموضوع، وعندما أجلس إلى طاولتي الخشبية الخشنة، أجد نفسي مسترسلا في كتابة صفحات وصفحات وغالبا ما كنت أعيد كتابة الإنشاء عدة مرات.
والواقع فإن هذه المادة استحوذت على اهتمامي منذ السنوات الأولى في مدرسة « سيدي لحسن »، وكان المعلم عبد الرحيم أول من لاحظ ميولي الأدبية… وكثيرا ما كان يشجعني على مواصلة المطالعة والكتابة… وكنت أحصل على نقط عالية في هذه المادة… كما أنه لم يبخل علي ببعض الكتب القليلة باللغة العربية التي كانت تزين مكتبته المكونة في غالبيتها من الكتب باللغة الفرنسية…
وسأتألق في مادة الإنشاء خلال السنوات التي قضيتها في إعدادية جرادة، حتى أصبح يشار علي بالأصابع في بعض الأحيان في ساحة الثانوية، مما كان يزيد من خجلي من جهة ومن فضول التلاميذ والأساتذة من جهة أخرى …. وكان هذا التألق فرصة للتعرف على المزيد من النخب المثقفة في جرادة، بل وحتى على التلميذات اللواتي كن يرمقنني ربما بنوع من التعجب، لأن مظهري الخارجي كان متواضعا جدا،…
وأذكر بهذا الخصوص أن الله سبحانه أكرم تلاميذ السنة الأولى من الثانوي بأستاذ في اللغة العربية من المناطق الشمالية من المغرب، له معرفة خارقة باللغة العربية وبالأدب العربي … وهو الأستاذ » محمد طجو ».. وكان هذا الأستاذ من بين الأشخاص الذين أدين لهم بالشيء الكثير في نمو موهبتي الأدبية بل وفي اكتمال شخصيتي. كان الأستاذ ذو قامة طويلة وكان نحيفا وأنيقا، وله خط رائع باللغة العربية…
وفي بداية السنة الأولى إعدادي اقترح علينا موضوعا في الإنشاء حول وصف حالة التلميذ الذي يدخل المدرسة لأول مرة … وقد حاولت أن ألم بهذا الموضوع الذي لم يكن غريبا علي، ويبدو أنني قد أطلت الحديث في هذا الشأن ولم أرتكب أي خطأ نحوي أو إملائي خلافا لسائر التلاميذ الشيء الذي أثار شكوك الأستاذ الذي أصدر على تجربتي الأولى هذه، حكمه القاسي، واتهمني بأنني نقلت عبارات طويلة عن « طه حسين » واستعملتها في غير محلها كما أني أطلت الحديث أكثر من اللازم… وكانت النقطة التي منحني إياها 8/20 أي أقل من المعدل. يا للفضيحة! ماذا يريد هذا الأستاذ؟! تألمت كثيرا وأنا أعيد قراءة ملاحظاته..آلتي جانبت الصواب!
صبرت حتى أنهى الأجوبة عن تساءلات التلاميذ وهو يمر بين الصفوف بخطاه العملاقة فدعوته لأكد له بأني لم أقرأ أي مؤلف لطه حسين لحد ذلك الوقت، وكل ما أعرف أنه أعمى وأنه كتب مؤلفا سماه الأيام، ولكن لم تتح لي الفرصة لقراءة مؤلفاته!
استغرب الأستاذ من ملاحظاتي الصريحة، وأخذ مني الورقة التي بدأ يتأملها من جديد،كمن يحاول أن يجد مبررا لما قام به… ثم قال لي:
حسنا …! واصل مجهوداتك وسوف نرى !
كان زمن الانتظار أسبوعا كاملا وكما كان متوقعا فإن النقطة الأولى كانت من نصيبي وكانت ثمانية عشر على عشرين… وليس هذا فحسب، فإن الأستاذ الذي ربما أراد أن يكفر عما بدا منه في الأسبوع الماضي… أمرني بأن أقف أمام السبورة وأقرأ محاولتي الإنشائية على مسمع الجميع! كان الانتصار باهرا… وكانت مجاملة زملائي قد بلغت أوجها.. ولم تمر إلا أيام قلائل حتى وجدت نفسي في حرج كبير… إذ أن الكثير من زملائي من الأقسام الأخرى كانوا يطلبون مني إنشاءاتي لمطالعتها. وإذا كان أغلبهم من ذوي النية الحسنة فإن البعض الآخر بطبيعة الحال عمد إلى استنساخها واستعمالها في محاولته الخاصة الشيء الذي سوف لن يخفى على الأستاذ « الطجو » الذي صارحني بملاحظته القاسية وأمرني بعدم تسليمي إنشاءاتي لكل من يطلبها منى.
كانت هذه حالتي مع مادة الإنشاء التي أكسبتني شهرة في الإعدادية كلها… وأذكر في يوم من أيام السنة الثالثة أي آخر سنة لي بجرادة أني كتبت ما يقارب العشرين صفحة في محاولة واحدة وكان موضوعها » فوائد السفر » إذ تطرقت خلالها للتعريف بمشاهير الرحالين المغاربة كابن بطوطة والإدريسي …إلخ. وقارنت ذلك بوضعيتي التي لا تسمح لي بالسفر ولو إلى مدينة « قنفودة » المجاورة… كانت محاولة مؤثرة للغاية جمعت فيها بين معرفتي بالرحالين المغاربة والعالميين وإلى مدى ما وصلوا إليه في مشارق الأرض ومغاربها وبين الرحلة القصيرة التي شاءت ظروفي المادية أن أقوم بها لبعض القبائل في الهضاب العليا من المغرب الشرقي وخاصة قبائل « أولاد سيدي علي بوشنفة » ، وأنا أقود قافلة من الحمير لبيع « الهندية » أو فاكهة الصبار خلال عطلتي الصيفية. جمعت في هذه المحاولة بين بؤس وضعيتي كتلميذ فقير وبين هؤلاء المشاهير الذين عمت أنباءهم أرجاء العالم!
كان تأثر الأستاذ « ريان » المنحدر من مدينة « تطوان » كبيرا جدا، وهو يعيد الأوراق إلى أصحابها… وكان هذا الأستاذ شابا صغير السن، ولكن كان بحق موسوعة في الأدب العربي… ومنذ الأيام الأولى أصبحت تربطني به علاقة طيبة التي تطورت لتصبح في نهاية السنة علاقة أصدقاء أكثر منها علاقة مدرس بتلميذه . بحيث تقوت بيننا أواصر الصداقة و الاحترام المتبادل…
وعندما أعاد إلينا الأوراق بعد تصحيحها، ابتسم ثم قال:ـ أما السي رابح فإنه لم يشفق من حالي… فقد كتب حوالي عشرين صفحة، لقد قرأت محاولته بكل سرور.. وإني لأهنئه على هذا العمل الجبار الذي يستحق التنويه.. تعالى يا السي رابح.. اقرأ بعض المقاطع على مسامع زملائك .
بدأت في قراءة ما كتبت وقد بدا لي في وقت من الأوقات أن القسم أصبح كله آذانا صاغية…إذ أن زملائي كانوا يسمعون وينظرون إلي بكل إمعان… لقد تمكنت من الاستحواذ على مشاعرهم! وسوف لن يعكر صفو هذا المشهد إلا صوت الجرس الذي رن إيذانا بالاستراحة…
ختم الأستاذ بقوله:ألم أقل لكم إنه يستحق فعلا التنويه على هذا العمل الجبار وعلى هذا الأسلوب الرقيق الذي يسمى في البلاغة بالسهل الممتنع.. ويبدو أن السي رابح اهتدى إليه من خلال كثرة المطالعة أليس كذلك السي رابح…؟ أرجو لك كل التوفيق…
وكان هذا هو حالي مع هذه المادة التي اختلفت أسماءها حسب الأقسام الدراسية: التعبير، الإنشاء، المحاولة الأدبية ….إلخ والتي كنت أحصل فيها دائما على النقطة الأولى. وكان أساتذتي يوصونني بالاستمرار في الكتابة والمطالعة…
إلا أن أستاذي الصغير السي » ريان » حذرني هذه المرة ،من الكتابة في الأمور السياسية وذلك لأني حملت الحكومة المغربية المسؤولية الكاملة على ما تعانى منه قبائل المغرب الشرقي من البؤس والفقر والتهميش، وقال لي بأني سوف أضعه في موقف لا تحمد عقباه إذا زاره مفتش التعليم. وقد أضاف قائلا: أوصيك يا السي رابح بالمزيد من المطالعة السياسة وقراءة الصحف والمجلات . ولكن رجاء! لا تكتب مثل هذه المحاولات السياسية في القسم، بل احتفظ بها لنفسك … أو …ربما هناك بعض الجرائد التي يمكن أن تنشر ذلك.
كان للأستاذين اللطيفين الطيبين والأديبين المقتدرين السيد « طجو » والسيد « ريان » أثرا بليغا في تكوين شخصيتي الأدبية منذ ذلك الوقت وعلى امتداد ثلاث سنوات أي حتى نهاية الستينات…إذ لم يبخل علي الرجلان معا لا بإرشاداتهما الحكيمة ولا بفتح مكتبتيهما أمامي لأطالع ـ ربما ـ أغلب ما توفرتا عليه من كتب نفيسة وخاصة في الأدب العربي…
***
توزيع الجوائز على التلاميذ المتفوقين..
كانت هناك عادة من أجمل العادات التي دأب عليها المسؤولون بإعدادية جرادة، في نهاية السنة الدراسية وهي الاحتفاء بالتلاميذ المتفوقين في دراستهم ومنحهم جوائز تشجيعية…
و كانت الجوائز مختلفة وأغلبها عبارة عن كتب متنوعة يوزعها الأساتذة وإدارة الثانوية والسلطات المحلية للمدينة على التلاميذ النجباء الذين حصلوا على أحسن الدرجات في قسمهم وكذا على أحسن نقطة مقارنة مع الأقسام الأخرى وعلى صعيد الثانوية…
و كان لهذا الحدث في حياتي، وقعا كبيرا، تحول فيما بعد إلى محطة مشرقة من حياتي لن أنساها أبدا…
لقد شاءت الأقدار أن أحصد كل الجوائز المخصصة للدرجات الأولى في جميع المواد ماعدا مادة اللغة الفرنسية، وهكذا فقد حصلت على الجوائز الأولى من يد السيد المدير (كوي بوي) ومن يد السيد قائد المقاطعة لجرادة ومن أيدي شخصيات أخرى من المسؤولين في شركة المناجم وبالطبع من أيدي أساتذتي المحترمين، الذين أدركوا شعوري، فراحوا يهنئوني بحرارة.. خاصة وقد نودي على اسمي أكثر من ست مرات.. إلا أن المفاجأة الكبرى ستكون بحصولي على جائزة من الجوائز الكبرى للثانوية الشيء الذي رفع من وقع التصفيقات بل والهتافات.
وكانت مجموعة الهدايا التي حصلت عليها، عبارة عن كتب قيمة ساهمت في تكويني وفي بلورة شخصيتي…وهكذا، وبقدرة قادر أصبحت أملك مكتبة لا بأس بها..بحيث أصبحت بدوري أتبادل الكتب مع الأصدقاء بعدما كنت « أشحذها » منهم..
ولكن مع الأسف الشديد ، فبرحيل الأساتذة الفرنسيين والمدير الفرنسي، تم نسيان هذه العادة الجيدة والحميدة…
ـ يتبع ـ
Aucun commentaire