حديث الجمعة : ساعة الشدة فرصة ثمينة تجعل المؤمنين يعرفون قيمة نعم كانوا لا يلقون إليها بالا ساعة الرخاء ولا يحسنون شكرها
حديث الجمعة : ساعة الشدة فرصة ثمينة تجعل المؤمنين يعرفون قيمة نعم كانوا لا يلقون إليها بالا ساعة الرخاء ولا يحسنون شكرها
محمد شركي
أصل كلمة » نعمة » هو الفعل الماضي » نعم » بفتح النون والعين ، ومضارعه » ينعم » بتسكين النون وضم العين ، ومصدره » نعمة » بفتح وكسر النون ، وتجمع على » نعمات » بفتح العين وتسكينها ، وعلى أنعم ، ونعم ، والنعمة هي أيضا » المنعم » ، وتدل النعمة في اللسان العربي على طيب العيش وسعته ورغده وغضارته ورفاهته ، وهي نقيض البؤس وضيق العيش وضنكه . وتشترك مع هذه المادة اللغوية » النون، والعين، والميم » مسميات أخرى تلتقي كلها عند معنى شامل يشملها جميعا وهو السعة التي تبتهج لها النفوس والقلوب . فالإنعام هو التوسعة على الإنسان وإيصال الإحسان إليه، ولا يقال ذلك لغيره من المخلوقات .والنعيم هو حيث تكثر النعم وتتسع ، ولا يكون ذلك إلا في جنة الخلد. والأنعام أو النعم تطلق على الإبل، وهي عند العرب من أعظم النعم الدالة على سعة العيش وطيبه حيث يركب ظهرها ، ويشرب لبنها، ويؤكل لحمها، ويلبس وبرها ، وينتعل جلدها ، ويتخذ منها المسكن الذي تكون فيها السكينة في الإقامة والظعن كما جاء في قوله عز من قائل : (( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفّونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين )) وقيل إنه لا يقال للبقر والضأن والماعز أنعانا حتى تكون معها الإبل . والنعامة طائر سمي كذلك لشبهه بالإبل ، ولحمه وبيضه وريشه مما يعد من سعة العيش وخفضه ، ويطلق اسم النعامة أيضا على مظلة البئر لأنها تشبه عن بعد ذلك الطائر، وتشبيها بها تسمى منازل القمر النعائم ومنظره مما تتسلى به العين وتطيب به النفس . والنعامى ريح طيبة ينشرح لها الصدر .
ولقد تكرر ذكر النعمة والنعم مفردة وجمعا وبصيغ فعلية واسمية في كتاب الله عز وجل ، وهي مما امتن به الخالق سبحانه وتعالى على خلقه . ويدخل تحت مسمى النعمة كل ما جاد به جل في علاه مما لا يحصيه عد ، ولا يؤديه شكر مصداقا لقوله تعالى : (( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار )) ، فبموجب هذا النص القرآني يعتبر كل ما يسأل الخلق خالقهم مما يحتاجون إليه نعما ، ونظرا لكثرتها يتعذر إحصاؤها ، علما بأن الإنسان حين يقرر الله عز وجل خلقه من أول وهلة تبدأ نعمه سبحانه وتعالى تتوالى عليه بكثرة كاثرة حتى أنه لا يستطيع إحصاءها . ولمّا كان الإنسان بطبعه ظلوما كفّارا فإنه قلما يستشعر ما أحاطه به خالقه من نعم كثيرة مستعصية على العد ، ولئن ذكر بعضها فإنه يستعرض القليل منها ويغفل عن الكثير ، وهو لكفرانه النعم لا يذكر منها إلا القليل مما يعتبر في تقديره القاصرنعما ، وقد يغفل عما هو أهم وأعظم مما يعتبر ويقدر ، وتقديره مشوب بجحوده الذي يحجب عنه معرفة قيمة النعم الإلهية التي تحيط به من كل جانب .
ولو استعرضنا الآيات الكريمة التي امتن فيها الله عز وجل على الخلق بنعمه لطال بنا الحديث ، ولكننا سنقف عند بعضها نيابة عن غيرها وما به يحصل المراد الذي نرومه ، فمن تلك الآيات قوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) ،وكمال الدين وهو الإسلام وقد حصل بآخر رسالة وأشرفها ، وبآخر وأشرف رسول صلى الله عليه وسلم هو أكبر نعمة وأتمها على الإطلاق، وبها تمام باقي النعم وقد جعلها الله عز وجل هي المتممة وارتضها لعباده المؤمنين . ولو شئنا لاكتفينا بهذه النعمة البالغة الكمال والتمام والمشار إليها في هذه الآية ،ولكن لا بأس من استعراض غيرها للمزيد من التعرف على نعم المولى جل في علاه ، ومنها قوله تعالى : (( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون )) ،ففي هذه الآية دليل على أن كل نعمة ينعم بها المؤمن أوغير المؤمن على حد سواء مردّها إلى المنعم سبحانه وتعالى. وما يجب أن يستوقفنا عند هذه الآية الكريمة أن الإنسان إذا مسّه الخير وهو نعمة قد لا يبالي بها ولا يؤدي ما عليه من حق شكرها ،ولكنه في المقابل إذا مسّه الضر بزوال نعمة من النعم يجأر إلى خالقه بالدعاء والضراعة رافعا صوته متوسلا مستعطفا ، وعلى قدر الضر الذي يصيبه يكون جأره أو جؤاره مع أنه لا يكثر الشكر على الخير كما يكثر الضراعة عند الضر ، لأنه ظلوم كفّار، ويؤكد هذا قوله تعالى : (( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار)) ، ففي هذه الآية بدأ الله عز وجل بذكر مسّ الضر قبل تخويل النعمة ،والتخويل هو العطاء تفضلا عكس الآية السابقة التي بدأها بذكر النعمة قبل مسّ الضر . والآيتان معا تصور طبيعة الإنسان حين تصيبه النعمة ، وحين يمسه الضر ، ذلك أنه عندما تسبق النعمة لا يبالي بها ولا يقدرها حق قدرها ، وعندما يعقبها الضر يكون جؤاره عريضا ، بينما عندما يسبق الضر النعمة يدعو ربه منيبا، والإنابة هي رجوعه إلى الخالق مرة بعد أخرى طالما ظل الضر نازلا به ، وحين يعطى النعمة تفضلا بعد الذي مسه من ضر ينسى جؤاره من قبل ، ويجعل لخالقه أندادا يشركهم معه فيما تفضل به عليه من نعم بدءا بشرك نفسه الأمارة بالسوء ، وانتهاء بشرك غيره من المخلوقات كفرانا وجحودا بنعم المنعم فيتمتع بكفره قليلا والحال أن حياته أقصر من سالفة الذباب كما يقال ، ومتعتها سريعة الزوال فيواجه المصير المشئوم في النار خالدا فيها .
حديث هذه الجمعة الداعي إليه هو أن الناس في العالم أجمع مسهم ضر جائحة لم تغادر بلدا فيه إلا غزته وحصدت ما شاء الله تعالى من الأرواح ، ونجا بقدرته سبحانه وتعالى من نجا، واشتد جؤارهم باستثناء الجاحدين الذين سخروا من هذا الجؤار ولئن مسهم ضر هذه الجائحة لجأروا رغم أنوفهم وهم صاغرون .
والقصد من وراء هذا الحديث هو أن يغتنم الإنسان المؤمن فرصة هذه الشدة النازلة بالبشر أو هذه المصيبة لمعرفة نعم كثيرة خولها لهم المنعم سبحانه وتعالى ولكنهم كانوا غافلين عنها لا يلقون إليها بالا ، ولا يؤدون شكرها ولا يحسنونه وهم في رخاء و في بحبوحة عيش.
وأول ما يجب على المؤمنين استحضاره ، وحرب الجائحة لمّا تضع أوزراها بعد أكمل وأتم النعم ألا وهي نعمة الإسلام ،وكثير من الخلق في العالم مغبون فيها ثم استحضار ما كانوا غافلين عنه من نعم شتى قبل حلول الضر والاضطرار إلى اللجوء والجؤار إلى المولى عز وجل لكشفه . ومن تلك النعم على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر نعمة الأمن التي لم يعرف قدرها إلا بحلول الخوف بسبب الجائحة. ومنها أيضا نعمة الصلاة في بيوت الله عز وجل أوفي المصليات ، وقد كان المنادي ينادي حي على الصلاة ، و وينادي الصلاة خير من النوم ، واسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، وكثير من الناس لا يبالون بهذا النداء وقد شغلوا عنه بأموالهم وأولادهم في صفقات خاسرة مع خالقهم بل وشغلوا عن ذلك بالمعاصي . ومن النعم أيضا استحضار اليقظة الغائبة التي كانوا في شغل عنها بسبب الغفلة لا يفكرون في منية متربصة بهم ،وليس لهم من الزاد ما يتزودون به للمعاد ، ولولا تهديد الجائحة لما استيقظوا من غفلتهم .
ولو شئنا أن نسرد نعما أخرى ما كانوا ببالون بها قبل حلول هذا الوباء لطال بنا الحديث مما لا يسمح به المقام ، وقد صار الناس يعدّدون منها ولا يعدّون وقد قيدهم الحجر الصحي ، وحرمهم منها، فاشتاقوا إليها كأشد ما يكون الشوق ، وذهل كل محب عمن يحب وقد همته نفسه ، وكاد البعض أن يتنكروا إن لم يكونوا قد فعلوا ذلك بالفعل للأخ والأم والأب والصاحبة والبنين بمجرد بلاء الجائحة، فما بال هؤلاء إذا حل يوم الدين ،يوم لا يسأل حميم حميما ، والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
ومما يجب أن نستحضره أيضا ما حذّر منه الله تعالى وهو نسيان الدعاء والإنابة إذا خوّلنا سبحانه وتعالى نعمه التي لا تحصى بعد رفعه الجائحة وكشف ضرها.
اللهم إنا نسألك القلب الشاكر ، واللسان الذاكر على فيض نعمك ووفرة آلائك ،أنت سبحانك المستحق للحمد والثناء الذي لو اجتمع أولنا وآخرنا ،إنسنا وجنّنا ما أدركنا من ذلك ما يليق بعظمتك وجلالك وسمو قدرك العظيم ، يا قابل الشكر القليل على عطائه الوفير تجاوز عنا التقصير في شكرك وحمدك وذكرك رحمة ورأفة منك بنا ، فإنه لا راحم لنا إلا أنت .
اللهم إن سفهاء الناس قد سخروا من لجوئنا إليك بالدعاء والضراعة والجؤار لكشف الضر عنا ، فلا تشمتهم يا ربنا بنا ، وعجّل اللهم بفرج من عندك يا حنّان يا منّان يا من لا يتبرم من إلحاح عباده الملحين عليه . اللهم إنا نتوب إليك من شرور الأنفس ،ومن سيء الأعمال ، ومن موبق الأقوال ، فاصفح يا مولانا صفحك الجميل ، واعف عفوك الكثير ، وارحم رحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire