رحلة في أعماق جبال الأطلس المتوسط قبل زمن كورونا
جمال مصباح
في ظل الحجر الصحي الذي نعيشه حفاظا على صحتنا من الوباء الفتاك , يسبح الفكر في عنان السماء وتراوده اضغاث احلام تحمله في رحلة عبر الزمان لعله ينسى الواقع الحزين ولو الى حين , وفي رحلة حلم رائع جبت خلالها سهولا وجبالا وعبرت انهارا ووديانا وسط الادغال والغابات , وبدت لي تلك المناظر مألوفة وكأنها ترسخت في اللاشعور فطفت على السطح مجددا حاملة ذكريات وحنين الى زمن كل شيء فيه شيق وجميل , فهل سيعود يوما كما غنت فيروز
يعزّ علينا غداً أن تعود
رفوف الطيور.. ونحن هنا
هنالك عند التّلال تلالٌ
تنام وتصحو على عهدنا
ربوعٌ مدى العين صفصافها
على كلّ ماءٍ وها فانحنى
تعبّ الزّهيرات في ظلّه
عبير الهدوء وصفو المنى
***
سنرجع… خبّرني العندليب
غداة التقينا على منحنى
بأنّ البلابل لمّا تزل
هناك تعيش بأشعارنا
وما زال بين تلال الحنين،
وناس الحنين مكانٌ لنا
سنرجع يوماً إلى حيّنا!!!
وعند الرجوع الى الواقع رأيت فعلا لوحات من الجمال الطبيعي الأخاذ وسط الغابات والأنهار ومنابع وعيون تنساب مياهها صافية رقراقة . ضايات وبحيرات تعود إليها الحياة بعد سنوات عجاف أتت على الأخضر واليابس , فجف الزرع والضرع , كانت بالأمس القريب تحتضن ممارسي صيد الاسماك والتزحلق
على الماء في منظر رائع ,وعلى ضفافها يجلس الزوار في جلسات عائلية تؤثثها كؤوس الشاي المنعنع وأطباق ما لذ وطاب و أنغام الناي تردد صداها الجبال . .
بمدينة افران التي لقبوها سويسرا المغرب حدائق غناء ووديان وعيون وسط غابة اشجارها اصنافا وأنواعا من صنوبر وسنديان وأرز وفلين , بناياتها ذات سطوح من قرميد احمر يزيدها حسنا وبهاء في الصيف كما في الشتاء حيث تغطيها الثلوج , شوارعها نظيفة. مدينة مجهزة بالمطاعم والفنادق شعبية وأخرى من صنف خمس نجوم.
في مدخلها يستقبلك بعض الشبان عارضين عليك خدمات الإيجار ومن خلال ممارستهم اليومية صار لهم حس ومعرفة بأرقام السيارات والمدن القادم منها ركابها ,كما أن نوع السيارة ينبئهم بنوع السكن المرغوب فيه فيلا أو شقة أو منزل مستقل ,وكل ذلك بنوع من الدعابة واللطف والترحيب الذي هو شيمة من شيم السكان الامازغ من عتبة تازة الى تخوم الصحراء المغربية .
تنوع المناظر الطبيعية والمواقع السياحية والجو المعتدل في عز صيف قائظ يجعلك تمدد عطلتك لتتمكن من زيارة أكثر ما يمكن زيارته ,وحتما ستكون الانطلاقة من منتجعات ايفران ومحيطها من منتزهات طبيعية وأحواض لتربية اسماك التروتة , بعد زيارة عين فيتال وماويها وتناول وجبة غذاء بها او بمنتجع راس الماء تحت ظلال اشجار الارز الباسقة التي تنعش الهواء وتلطفه , فتستلذ المقام خاصة في الصيف وجوه الحار الذي لا يطاق بمدن كفاس ومكناس وما جاورهما . .
و بالنسبة لأشجار الأرز يتوفر المغرب على اكبر غاباتها بالأطلس المتوسط وجبال الريف ,فهي أشجار من فصيلة الصنوبريات دائمة الاخضرار وسريعة النمو يتراوح طولها مابين 25 و50 م .
تنمو في الأماكن المرتفعة عن سطح البحر من1000 إلى 2000م ,وتعمر لما يفوق الألف سنة.
تستعمل كأشجار تزينية كما أن خشب الأرز من أحسن الأخشاب جودة وله خاصيات ومزايا متنوعة.
وغير بعيد عن افران في الطريق الى أزرو يوجد مكانا يسمى » أرز غورو » تتجمع فيه القردة التي الفت من الزوار إطعامها بحبات الكاكاو قبل أن تتسلق أشجار الأرز الباسقة حاملة صغارها في منظر لا نراه إلا في أدغال إفريقيا من خلال الأشرطة الوثائقية التي تبث ببعض القنوات التلفزية. وقد يستغرب الزائر لضخامة شجرة الأرز وحجمها الذي يفوق كل التصورات, ولكن هناك سيتأكد لديه فعلا أن الأشجار تموت واقفة , وسيعاين ذلك و يخلده بصور تذكارية كما هو جار به العمل لدى الزوار المغاربة والأجانب المتوافدين أفرادا وجماعات على هذا الموقع الأخاذ.
إلا أن موت شجر الأرز ليس سببه عامل الشيخوخة أو غيرها من العوامل الطبيعة فحسب, بل هناك عوامل أخرى سببها العنصر البشري ,فهذه الأشجار أصبحت مهددة بالانقراض بفعل عمليات القطع الغير المشروع , فالكل واع بالمخاطر التي تتهدد غابات الأرز بالمغرب و التي تقارب مساحتها 140الف هكتار ,وان اجتثاث مساحات هامة كل سنة سيؤدي حتما إلى اندثار هاته الثروة الوطنية ,التي لا وجود لمثيل لها في العالم باستثناء بعض المناطق المعدودة على رؤوس الأصابع ومنها لبنان الدولة التي اتخذت شجرة الأرز شعارا مرسوما على رايتها لما لها من قيمة لا تقدر بثمن , فالحفاظ عليها مسئولية جماعية باعتبارها ثروة وطنية كما هو الشأن للمآثر التاريخية التي تحميها القوانين وتصنفها اليونسكو كتراث عالمي , فأشجار الارز لا تقل قيمة عنها . .
ومن ثم وجب المساهمة في كل مجهود يروم صيانة الغابة من جرائم الإبادة التي تتعرض لها أشجار الأرز بالخصوص , مما يجنب من كوارث طبيعية وخيمة العواقب من انجراف للتربة وتصحر يهدد التوازن البيئي,كما أن غابات الأطلس المتوسط هي خزان للمياه ,وكل إخلال في التوازن ستكون له انعكاسات سلبية على البلاد بأكملها حسب المختصين ,كما أن التأثير السلبي سيشمل الغطاء الايكولوجي والثروة الحيوانية..
فلتتضافر الجهود للقضاء على هذه الظاهرة المجرمة قانونا والغير مقبولة أخلاقيا ودينيا…
طبعا رحلة كهاته في ربوع جبال الاطلس المتوسط المغربية لن تكتمل إلا بنزهات بمنابع نهر ام الربيع وبحيرة اكلمام ازكزا ومنطقة اجدير ضواحي خنيفرة , ومواصلة الطريق في اتجاه اقليم بني ملال من زاوية الشيخ الى القصيبة ومصطاف تاغبلوت واغبالة وتيزي نسلي وقبائل ايت عبدي وايت سخمان , وسط غابات وشعاب ووديان تسحر الزائر وتأسر خياله ووجدانه صيفا حيث المناخ المعتدل وشتاءا عندما تلبس ثوبا ابيض كعروس في ليلة زفافها , او أشجار اللوز عند إزهارها في طبيعة عذراء إلا من شدو البلابل و الطيور ورفرفة أجنحتها في الأعالي , وبمواصلة الطريق نحو املشيل حيث اسلي وتسليت وما نسجته حولهما الأسطورة من احداث حول عاشقين حيل بين زواجهما ففاضت دموعهما انهارا حتى كونت البحيرتين , وماتا دون إن تتحقق رغبتهما , ولتصلح قبيلة ايت حديدو خطئها اقامت موسما سنويا للخطوبة تبرم خلاله عقود الزواج للمخطوبين من قبل, في أجواء احتفالية ,و يفد إليه الزوار مغاربة وأجانب في قوافل وأفواج كالحجيج , وعودة الى بني ملال وسط سهل تادلة الاخضر اخضرار اشجار الزيتون وبساتين الليمون و مزروعات بها من الشمندر ما يشغل معامل السكر الثلاث ويحرك عجلة الاقتصاد والتنمية , فترى العمال يشتغلون كخلية نحل لإنتاج سكر كالعسل يوزع في الاسواق الوطنية بكميات وافرة في افق تحقيق اكفاء ذاتي ولما لا التصدير للخارج .
عين اسردون شلال متدفق تنساب مياهه عبر السواقي في المنحدر لتروي أراض عطشانة تنبت الخضروات والفواكه وزراعات فصلية تشكل قوتنا اليومي .
ومرورا عبر افورار نحو ازيلال بين الاطلسين المتوسط والكبير تتراى من بعيد بحيرة سد بين الويدان بزرقتها السماوية وكأنها بحر بدون شاطئ , شساعتها تزداد بفعل ذوبان الثلوج التي تكسو القمم ومياه الانهار التي تفرغ بها حمولتها , وتتغذى برواسبها الاسماك والإوز في منظر رومانسي رائع لا تراه إلا في الأفلام , و يمارس هواة الجيت سكي ركوبهم الامواج , والزوارق تمخر عباب البحيرة كأنها في لج بحر لا تنقصه إلا طيور النورس وهي تتعانق السماء .
كل شيء في مرتفعات ازيلال يغري السائح الباحث عن الراحة والهدوء ورفع التحديات بتسلق الجبال والمشي في مسالك وعرة وسط محميات ومنتزهات غابوية بها من الوحيش والنباتات العطرية والأشجار ما لا تراه بمكان أخر لان لعامل البيئة دورا قلما يؤخذ في الحسبان , والمأوي السياحية بالمداشر وبالأعالي تنتشر كالفطر الحميد توفر اللوجيستيك لمن اراد التمتع بسكون الليل وضوء القمر على عادة اهل الربع , ومشاركتهم الاطباق » البيو » الشهية من لحم ماعز وخضر محلية الانتاج , وأكواب الشاي الجبلي تزيل تعب السير على الاقدام لمسافات طويلة ,و قد يطول الوصف ولا نوفي المنطقة حقها لان القلم يعجز عن نقل صورة في كامل الدقة لهذا الجمال الطبيعي الجذاب الذي تمتزج فيه المشاعر وتحلق في عنان السماء .
ونختم برحلة الى شلالات ازود الساحرة ومحيطها الساحر بين خرير المياه المتدفقة من عل برذاذها القز حي اللون في منظر شبيه بلوحة رسمتها ريشة فنان تمتزج فيها الالوان بين الخضرة وزهر الرمان , حاشا ان تكون من ابداع انسان . فسبحان الخالق الديان.
فسحة وسط الجبال و الوديان في سفر شاعري يعجز اللسان عن التعبير عنه في كلمات ولا بأشعار لأنه يفوق الخيال و يسمو عن الواقع المعاش ولا يسبر اغواره إلا من رآه وعاينه لان من سمع ليس كمن رأى , وما شهدنا إلا بما علمنا .
Aucun commentaire