أنس في خبر كان
يعود تعلقي القوي بمسقط الرأس إلى عوامل متعددة ،منها ما يرتبط بالمكان، ومنها ما يرتبط بالإنسان.
أما الأماكن ،فإن التحولات السوريالية التي عرفتها، لم تحل في الواقع دون ارتيادي للعديد منها كلما أتيحت الفرصة ،لأنتشي بمناجاتها منفردا،أو بمرافقة كلب العائلة الذي عقد معي صداقة فيها من الوفاء ما لا يستطيعه ابن آدم.
وحسبي من هذا الوفاء،أن هذا الحارس الأمين، يتعرف على هدير سيارتي بمجرد أن أشارف على المكان، فيهب راكضا ليتمسح بالمركبة،ثم يبصبص بذنبه بمجرد أن أترجل وكأنه يود إعلان الترحاب بقدومي!
لا أكاد أغادر بيت العائلة من أجل التجول في الخلاء، حتى أجده بجانبي،ولا يفارقني حتى نعود سويا.
أما خلال الليل،فإنه يقعي بمدخل الزريبة ،ولا يسمح لأحد بالاقتراب ،وإلا أذاقه شيئا من شراسته التي تتحول معي إلى وداعة لا أستطيع تفسيرها،لذلك أعود إلى حلمي الصبياني القديم في فهم لغة الحيوان ،وأصوات الطير التي تظل لغزا بين البشر منذ أن توفي نبي الله سليمان،
الذي أغبطه على فك شفرة النملة والجمل الذي كانت تخزه الإبرة وراكبته لا تدري،ثم الهدد الذي شغله ملك بلقيس عن حضور الاجتماع الهام لحاكم الإنس والجن والطير…
إن جل الأماكن بالبلدة تحيي في نفسي ذكريات وأحداثا مختلفة، لا أجرؤ على مقاومة غوايتها،لذلك أجدني منجذبا نحوها وأنا لا أجهل بأني تلميذ نجيب لقدماء الشعراء العرب ،وهم يقفون على الأطلال بين باك وكاظم لمشاعره،
رغم أن مسقط رأسي ليس فيه أثر ،،لسقط اللوى ،،أو حومل،،وإن كان فيها كثير من أوشام خولة ،،برقة ثهمد،، !
أما ما يرتبط بالإنسان،فهو ما يحز في النفس ، ويفتح فيها جراحا لا تندمل.
لقد خلت الديار من عشرات الوجوه العزيزة،بينها أشخاص كانوا عبارة عن فلتات زمانية لن يقوم مقامها أحد على الإطلاق.
كنت فيما مضى أجد متنفسا لكل مايثقل كاهلي، بمجرد أن تطأ قدماي تراب مسقط الرأس،خاصة عندما رسخت تقليدا سمح بخلق أجواء من الدعة التي لا تنتهي إلا لتتجدد،ويتجلى في تنظيم عشاء تحضره العديد من وجوه الدوار.
وهكذا،وإلى جانب احتفاء الوالدة-رحمها الله-بزيارتي وسعادة أخي ،فإن أبناء عمومتي ومعظم الجيران،كانوا مدعوين رسميين كلما زرت البلدة.
ربما مرت العلاقات بما يعكر صفوها في غيابي،لكن الأمور تستعيد حميميتها بمجرد أن أعلن حضوري.
وهكذا،وبمجرد أن أضع لوازم عشاء استثنائي رهن إشارة الأسرة،فإنني كنت أتوجه إلى المرتفع الذي كان يجلس فيه ابن عمي علي-رحمه الله-لتكون الطريق المعبدة من وإلى تاوريرت، ناهيك عن المساكن وحركتها، تحت ناظريه.
كان للرجل طريقة خاصة في رواية أخبار البلدة وتأويل أبعادها،مما يمدد من عمر سمرنا على كؤوس الشاي التي تعقب طعام عشاء أعد ببساطة البدو.
أما إذا كان المرحوم،،عمرو،،على مائدة الطعام،فإنه يستحيل أن يسمح لك الضحك الهيستيري بتناول اللقمة،فقد كان هذا الرجل بارعا في صنع الفكاهة .
كنت أقوم بزيارات مفاجئة للجيران ،حتى لا يتكلفوا في إعداد الوجبات،لأن غايتي أن أستمتع بحديث هؤلاء البسطاء الذين ينسونني في أجواء المدينة وتصنع أهلها.
كان بين رجال ونساء الدوار أشخاص عبارة عن سجلات لأحداث تاريخية،لم نفلح في الاحتفاظ إلا بجزء يسير منها ،لأننا لم نكن نتوقع بأن ينتزعهم الموت من بيننا تباعا وعلى حين غرة !
لا زلت أواظب على زيارة مسقط الرأس والسوق الأسبوعي،لكنني افتقدت الأجواء التي كانت تشدني إليها قبل سنوات.
لقد غيب الموت جل الوجوه التي كانت أركانا أساسية في تشكيلة الدوار،إلى درجة أن عشرات البيوت قد أصبحت مقفرة،فإن مررت بجوارها،انتابك الحزن والوحشة وأنت موقن بأنه صار من المحال أن تسمع ضحكات،،عمرو،، أو قصص أخيه محمد ،أو مزاح ،،سعو،،كما نرخم عمنا مسعود،أو تندر ،،حميمي،،كما كنا نسمي عمنا،،امحمد،،-رحمه الله-….
اختفى كل هؤلاء،وخلفوا من ورائهم جيلا عاجلته الهموم مبكرا،فلم يعد له متسع من رحابة الصدر ليصنع الضحك، بقدر ما يجهد نفسه في التفكير للغد ،والبحث عن مصادر أخرى للعيش خارج البلدة.
لقد صاريخيل إلي بأن كل من يقيم هناك،إنما يجمع آخر أغراضه لمغادرة المكان فتتحقق نبوءة،،حميمي،، الذي أخبرنا قبل سنوات عديدة بأن،،هذه الأرض ستخلو من أهلها الأصليين ذات يوم،وسيعمرها أشخاص غرباء،، !
وحده المرتفع الذي كان يرابط فيه ابن عمي،، علي،، لا زال يقاوم،لكن حديث ،،علي،،الشيق انتقل معه إلى عالم الصمت الذي يتناوب على من بقي من الأحياء ليغلق آخر صفحات الجيل السابق.
تحية لأرواح كل الأعزاء من الأقارب والجيران الذين خلا منهم المكان، وكل الخير لبلدتنا التي يفر منها أبناؤها تباعا !
Aucun commentaire