ذكرى « الإسراء والمعراج » و »صفقة القرن »: هل من علاقة؟
د. كمال الدين رحموني
وافَقَ أن استمعت في إحدى خطب الجمعة من شهر رجب الحالي، إلى خطيب يتحدث عن ذكرى الإسراء والمعراج، فوجدت فيها ما ظل يُردَّدُ سنويا في مثل هذه المناسبة، من المشاهد التي ذكرت في السنة النبوية العطرة. وكنت أتوقع أن ترتفع اهتمامات بعض الخطباء إلى مستوى ربط المناسبة بواقع الأمة، وذلك باستحضار ما يُفرزه الواقع من قضايا، هي-أيضا- من أجدر ما يمكن الحديث عنه. ومن أهم هذه القضايا الممتدة عبر الزمن، قضية الأقصى وفلسطين، وما تتعرض له اليوم من محاولات الطمس والإبادة، منذ بروزها في أعقاب الاحتلال الصهيوني الذي أصبح يقدّم للناس باعتباره أمرا واقعا، لا مندوحة عن التعامل معه، في خضم حالة النكوص، والاندحار الرسمي للنظام العربي الحالي. والإشارةُ هنا إلى ما يسمى بـــــ « صفقة القرن »، ومُتعلَّقاتها الخطيرة، التي تحُثُّ الخُطا، وتُسابق الزمن لاختصار قضية فلسطين في قضية شعب، والحقيقة أنها قضية أمة، وشتان ما بين المفهومين. في البداية، لا بد للإنسان العربي والمسلم أن يحيط علما بأهم مضامين هذه الصفقة البئيسة، التي تتلون تَلَوُّن الحرباء، ما بين المناورة السياسية، لاختبار ردّ فعل الأمة، بعد أن تماهت مع بعض رموز النظام العربي الرسمي، « دعما » و »تبشيرا ». وتارة أخرى تراوح مكانها تحت مبرر الوقت لتهييء المناخ السياسي الدولي والإقليمي. وأحيانا أخرى تبدو وكأنها تصارع الوجود في غرفة الإنعاش، في انتظار الـمَصْل الذي يُمِدُّها بالقدرة على الاستمرار في الحياة. ومن ثَمّ تظل هذه « الصفقة » تتأرجح بين أقلية رسمية نافذة تملك النفوذ والمال والقرار، وبين ضمير شعبي عريض رافض، يُصرّ على لَفْظها، بل ويعتبر الانخراط فيها خيانة للدين والوطن والأمة. و »صفقة القرن » مشروع يتضمن بنودا تسعة، منها: إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة محدودة على نصف الضفة الغربية، وعلى كل قطاع غزة، مع احتفاظ الكيان الصهيوني بالمسؤولية الأمنية على معظم أرجاء الضفة الغربية، وكل معابر الحدود، إضافة إلى ضمّ الأحياء العربية في القدس الشرقية إلى الدولة الفلسطينية، باستثناء البلدة القديمة، التي ستكون تحت الاحتلال الإسرائيلي، مع اقتراح مدينة « أبو ديس » عاصمة لفلسطين. ومن بنودها أيضا دمج « غزة » في الدولة الفلسطينية الجديدة بشرط موافقة حماس على نزع سلاحها، في غياب تام عن إثارة قضية اللاجئين الفلسطينيين، مع اشتراك فلسطين والأردن في إدارة الأماكن الإسلامية المقدسة في مدينة القدس. لكنّ الأخطر من كل ذلك في الصفقة، هو الاعتراف بــ »إسرائيل » وطنا قوميا للشعب اليهودي، أو ما يُعرف بيهودية الدولة، وهو ما يعني إلباس القضية لبوسَ الدين من منظور اليهود، على خلاف بعض المسلمين الذين يصرون على اعتبارها قضية سياسية. وهذه البنود التسعة، كلُّها بنود يشترك فيها بعض العرب بالدعم السياسي، والترويج الإعلامي، والسكوت المريب، في الوقت الذي لازال فيه التناول الديني في ممارسة التوعية بالقضية، لم يتفطّن بعدُ لخطورة المشروع المدمرة، خاصة على مستوى استثمار المناسبات الدينية، ومنها مناسبة « الإسراء والمعراج ». فهل من علاقة بين « الإسراء والمعراج » و »صفقة القرن » باعتبارها تستهدف قضية الأمة المقدسة، وتمكّن للمشروع الصهيوني على الأرض المباركة ؟ وهنا قد يثار سؤال الدين والسياسة، فما شأن خطبة الجمعة بقضية تكتسي طابعا سياسيا؟ وهي الفزاعة التي تُرفَع لمحاصرة المنبر وعزله عن ممارسة وظيفته في التوعية، ومدّ جسور التلاحم بين الأمة، وقضاياها الكبرى. والواقع أن مجرد إثارة مثل هذا السؤال، أقلُّ ما يمكن أن يوصف به، هو أنه سؤال ماكر أو ساذج. ذلك أن الدين عقائد وعبادات ومنهج حياة، ونظام حكم، وقضيةُ الأقصى وفلسطين هي قضية عقيدة، وإلا لكان القرآن في غنىً عن اعتبارها نصًّا من نصوصه المقدسة، فما الفائدة من إفراد معجزة الإسراء والمعراج بآيات في مطلع سورتي « الإسراء » و »النجم »؟ وأيُّ سرٍّ مكنونٍ في الجمع بين مكانيْن مقدَّسين: المسجدِ الحرام والمسجد الأقصى في القرآن الكريم ، وفي الحديث الشريف، حين ورد النهي النبوي عن شدِّ الرّحال إلا لثلاثة مساجد: » المسجدِ الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي »؟ فهل هو جمعٌ اعتباطي مجرّدٌ من الدلالة، أم إنّ الربط مقصود لطبيعة العلاقة الدينية الشرعية بين المكانين؟ وما علاقة « إقحام » موضوع الدين في قضية- هي في الأصل قضية « سياسية » كما يزعم بعضهم؟ وهو تساؤل مُغْرٍ، لكنه مخادع، الغرضُ منه السعي لمحاصرة الدين في زاوية ضيقة، بمنأىً عن قضايا الأمة الكبرى، لإنسائها ذكرَ ما يربطها بدينها وقيمها وهويتها، والوسيلةُ في ذلك التحريضُ على المنبر في كل مرة يكون المستهدَفُ ثوابتَ الأمة، ومن أهمها قضية الأقصى وفلسطين. ولذلك ناسَبَ أن تكون ذكرى « الإسراء والمعراج » مناسبة سانحة لاستمداد العبر، سواء منها ما تعلق بأبعاد العبادة كفرْضية الصلاة، وفطرة الدين، وعِبَر العقيدة ،كاستعراض أحوال المعذَّبين في السؤال النبوي، والجواب الملائكي، وصلاته- عليه السلام- إماما بالأنبياء بالأرض المباركة، كناية عن هيمنة الرسالة الخاتمة، إلى غيرها من العبر.لكنْ، من أهم العبر التي يجدر التذكيرُ بها من على المنبر، علاقة الذكرى بـــــ »صفقة القرن »وبنودها الرهيبة التي تستهدف قضية عقدية يُعدّ التفريطُ فيها تفريطا في الدين.
حول التسمية بــ »صفقة القرن »: لا يبدو هذا المركّب الإضافي عشوائيا ، بل له دلالاته وخلفياته. وبالرجوع إلى دلالة اللفظ في المعاجم، نجد أن الصَّفْق يدل على »ضَرْب اليد على اليد في البيع للدَّلالة على إِنفاذه »، كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم في فضائل الصحابة، قال: » وإنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق ». والصّفْقة، – أيضا- العَقْد، والبيْعة. ولذلك يختصر لفظ « الصفقة » القضية منذ بدايتها في أنها قضية للبيع، والشراء تحتاج بعد إنهائها إلى الموافقة بعد المصادقة. أما لفظ « القرن » فليس بريئا أيضا، ذلك أنه يوحي بمدة تاريخية مائوية، تمعن في الاعتراف بعُمُر احتلال إسرائيلي اغتصب أرضا مباركة، يوشك أن يـمُرَّ قرن من الزمن على بدايته، ليصبح أمرا واقعا.
« الإسراء المعراج » و »صفقة القرن »: لا بد من التذكير بطبيعة العلاقة بين المعجزة باعتبارها تدبيرا إلهيا مطلقا كاملا، حدَثَ في سياق تاريخي معين، لينقل التجربة المريرة، والمعاناة الشديدة للرسالة إلى طور جديد من أطوار التمكين، من مرحلة الاستضعاف الأرضي إلى مرحلة الاصطفاء السماوي. هي رحلة مباركة بين أرضيْن وسماء، بين مكة والأقصى، ثم معراج إلى السماوات العلى، ومن ثم فإن المعجزة جاءت لتعزيز ثوابت الدين التي بُعث من أجلها النبي الكريم، ونَبْذِ كل المشوشات، ودحْضِ كل الشكوك في الـمُـقدَّس. أما « صفقة القرن » فهي نسْجٌ بشري بخلفيات ماكرة، تبغي التمرُّد على المراد الإلهي في اعتبار الأرض المباركة أرضا مقدسة للأمة، لا تبغي بها أو عنها بديلا. والمعنى أن القبول والرضى بهذه الصفقة، قبل أن يكون خضوعا « سياسيا »، فهو مصادمةٌ لثوابت العقيدة، وتنكُّرٌ لقيم الدين، وهو ما يستدعي مساءلة قيمة التدين لدى المروجين لهذه الصفقة. فهل التسليمُ بها والرضى عنها، له أثر شرعي قبل أن يكون له تداعٍ سياسي؟ والجواب عن هذا التساؤل مسؤولية أهل العلم، ممن يحملون همّ الأمة، في بيان الحكم الشرعي في التعاطي مع هذه الصفقة، ومنهم علماء الوطن الذين يحظى بلدهم بشرف رئاسة لجنة القدس الشريف.
Aucun commentaire