جاسيندا أرديرن: درس دولي في تدبير الأزمة
أحمد الجبلي
إن أخطر الأزمات هي تلك التي تنجم عن الحوادث الشديدة وغير المتوقعة، مما يولد ارتجاجا وصدمة وارتباكا كبيرا لدى القادة، وأي تعامل سريع غير محسوب أو تصريح مرتجل غير مضبوط يمكن أن يكون كزيت على نار.
وكثير هم القادة الذين خسروا مناصبهم وتدنت شعبيتهم عندما أساؤوا التعامل مع بعض الأزمات التي أصابت دولهم، أو عندما صدرت عنهم تصريحات طائشة كما فعل بعض القادة العرب إبان الربيع العربي فلم تزد تصريحاتهم الوضع إلا ارتباكا والشعب إلا غضبا وهيجانا، وفي بلاد الغرب يعد ترامب نموذجا للتصريحات الطائشة وسوء التعامل مع الأوضاع المحرجة، من ذلك تصريحاته بمنع المسلمين من الدخول إلى أمريكا فأجج الوضع داخل أمريكا وخارجها، فجاءه الرد قاسيا من كل حذب وصوب فاعتبرت ميركل القرار غير مبرر، واعتبره العديد من المحللين السياسيين والقنوات الدولية هدية مجانية لكل الإرهابين في العالم، وجاءت الردود القاسية جدا حتى من داخل أمريكا أبرزها رد المخرج والكاتب الكبير مايكل مور صاحب « رجال بيض أغبياء » و « فهرنهايت 9/11″ حين خاطب ترامب بقوله: » أنا تربيت على أننا جميعا إخوة بغض النظر عن العرق أو العقيدة أو اللون، وهذا يعني أنك إذا كنت ترغب في حظر دخول المسلمين، يجب عليك أولا أن تحظر دخولي أنا والجميع، لأننا كلنا مسلمون ».
فماذا عن رئيسة وزراء نيوزيلاندا السيدة جاسيندا أردن؟ وكيف نجحت في تدبير أزمة مفاجئة وغير متوقعة نزلت على بلادها المسالمة كالبلاء العظيم وهي بلاد تضم مائة وستين لغة، ومائتي عرق كلها منسجمة ومتعايشة في سلم وأمان؟
إن أول خطوة قامت بها السيدة جاسيندا في إطار حسن تدبير الأزمة هي التدويب السريع للجليد بينها وبين المسلمين باعتبارهم جزء لا يتجزأ من نيوزيلاندا وأن ما يمسهم يمس كل البلاد ولذلك اعتبرت الاعتداء عليهم اعتداء على كل نيوزيلاندا والنيوزيلانديين، أي لم تعتبر المسلمين غرباء كما وقع من قبل في العديد من الدول الأوربية وأمريكا. ثم أعلنت من أول تصريح بأن الأمر يتعلق بعمل إرهابي شنيع وجريمة نكراء لا يمكن السكوت عنها أو وصفها بغير ما هي عليه. وهو الأمر الذي فاجأ العالم لأن العادة كانت قد جرت من قبل في منح حق الفيتو والحرية التامة للبيض كي يفعلوا ما يشاؤون دون أن يتهم أحدهم بأنه إرهابي أو عنصري أو غير إنساني أو عدو السلم الاجتماعي. فكان أن عملت وسائل الإعلام على تطبيق ذلك وكلما تحدثت عن الجريمة إلا ووصفت المجرم بالإرهابي والسفاح والعنصري.
كما أنها ولأول مرة وفي خطوة تعد سابقة من نوعها حيث أبت منح المجرم شرف الذكر فتحاشت نطق اسمه حتى لا تجعل منه بطلا وحتى يكون نكرة لا يسجل اسمه في التاريخ كما يريد. وأمرت كل وسائل الإعلام أن تركز فقط على الشهداء وعائلاتهم المكلومة مما فتح المجال واسعا للإعلام ليقدم شهادات وقصص وروايات الناجين وعائلاتهم وقد كانت قصصا جد مؤثرة ساهمت في المزيد من التعاطف مع الشهداء وعائلاتهم، وهو الشيء الذي كان إلى حد قريب يعد من المستحيلات، أي لم يكن متوقعا أن دولة أجنبية تدعو وسائل إعلامها للتركيز على ضحايا مسلمين وإبراز حجم المعاناة التي يعانونها من جراء عملية إرهابية بغيضة استهدفتهم.
ثم نزلت إلى الشارع مرتدية الحجاب واللون الأسود لون الحداد بالورود وزارت المساجد مساندة ومعزية فعانقت بحرارة عائلات الشهداء وربتت على الأكتاف بصدق، وأخبرت كل النيوزيلانديين بأن الكل واحد، وأن نيوزيلاندا كلها يجب أن تحزن لمصاب المسلمين الذين يعدون جزءا لا يتجزأ منا ومن دولتنا.
تكلمت ببعض الكلمات بالعربية وافتتحت كلامها ب »السلام عليكم » واستشهدت ببعض الأحاديث النبوية الشريفة وأمرت البرلمان بأن يفتتح بالقرآن الكريم، وأمرت قوى الأمن أن تحيط بالمساجد حماية للمصلين، كما وعدت عائلات الشهداء بإحضار دويهم والتكفل بنقل شهدائهم في حالة رغبوا في دفنهم في بلدانهم الأصلية على نفقة الدولة. وهي وسائل كلها تصب في التخفيف من معاناة المسلمين ومؤانستهم في مصابهم بشكل عجيب وفي نفس الوقت غير مألوف إطلاقا.
كما أنها وعدت بمراجعة بعض القوانين في البلاد مثل حيازة الأسلحة حتى تعمل على تفادي وقوع مثل هذه العمليات الإرهابية، وحتى لا تقد مضجع النيوزيلانديين المسالمين مرة أخرى، وهم شعب يعد نموذجا في التعايش بين الأقليات بل حتى اسم أقلية غير مجود بتاتا في هذه البلاد.
خلاصة القول، لقد أبانت السيدة جاسيندا أرديرن على أنها قائدة حكيمة وقوية، ومن مظاهر قوتها أنها لم تبالي بالتهديدات الإرهابية التي اعتبرتها متواطئة مع (الغزاة)، بل استمرت بكل قوة في التناغم مع قيم ومبادئ بلادها وفي اعتبار المسلمين جزءا لا يتجزأ من نيوزيلاندا ولهم كل الحق في العيش الآمن والكريم شأنهم شأن كل الشعب النيوزيلاندي، وليس غريبا إذن أن يطالب شباب العالم بمنح جائزة نوبل للسلام للسيد جاسيندا أرديرن على ما قدمت من دروس في السلم والدفاع عن وحدة شعبها دون تمييز لعرق على عرق أو دين على دين.
1 Comment
السلام عليكم مقالك رائع، أصبحت من المتتبعين لمقالاتك وفقك الله أخي