قبر منفلت
كل ابن انثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
هكذا يبادر كعب بن زهير إلى وضع الناس أمام حقيقة لا مفر منها، وهي أن رحلة الحياة،لا بد أن تنتهي يوما عند محطة نهائية،تتوقف معها كل علاقات الإنسان مع الدنيا ليستأنف الرحلة في عالم ظل يجهد نفسه لتأخير حلوله.
إن الموت الذي يرتبط حصوله بكل أشكال الأحزان ،ما يلبث تعاقب الأيام أن يخفف من هوله عبر نعمة النسيان التي تجعل النفس البشرية تعود إلى طبيعتها ،وهي صفة ورثناها من أبينا آدم حين نسي وصية ربه فأكل من الشجرة المحرمة.
ولما كان للنسيان فوائده،فإن الشاعر العربي،لم يفته أن يخلد ذلك بقوله:
نسيت والنسيان مغفرة وأول ناس،أول الناس!
وهكذا، فإن القائل يحيل على أول من دشن النسيان،وهو يعني أبا البشر-سيدنا آدم -عليه السلام،ليطمئن الإنسان بأن هذه الخاصية ليست شرا كلها،فلولاها لكانت الأحزان أشد وطأ!
لقد حرص الناس منذ قصة أول أغتيال في التاريخ نفذه قابيل في حق أخيه هابيل،وبإيعاز من الغراب على تبني أنسب وسيلة لحفظ رفات موتاهم، وذلك في دور ضيقة محددة لضمان التواصل الرمزي بين الأحياء والأموات.
لقد اعتنت المجتمعات المتحضرة بإعداد أماكن خاصة لإيواء الأموات بعد استيفاء حقهم في الطقوس السائدة بين الشعوب،بل إن هذه،، الأحياء السكنية الصامتة،، قد صارت لها أسماؤها التي تميز بينها.
منذ عقود خلت، أصبح الراقدون تحت الثرى معروفين بعدما عمدت الأسر إلى تخليد أسماء موتاها وتاريخ مغادرتهم لعالم الأحياء،بل إن البعض يحرص على التفنن في إعداد المقابر وتزيينها سعيا وراء تميز عبثي في محاولة تكريم متأخرة!
وإذا كان القبر حقا لصاحبه،ووسيلة لاستمرار العلاقة مع الأهل، فإن بعض الموتى قد عمقوا جراح وآلام ذويهم مرتين: فإلى جانب ألم الفقد،ينضاف ألم جهل القبر.
إن حالات الأموات الذين تحول اختفاؤهم إلى ألغاز،هي حالات كثيرة ومتكررة،لكن أقربها إلى بني بلدتي،هي حالة الشاب الذي ابتلعته الاعماق منذ أواخر أيام الاحتلال الفرنسي ،وحكم عليه أن يظل جرحا غائرا في قلوب ذويه.
كانت إحدى الشركات الأجنبية قد شرعت في استغلال بعض المناجم قرب سوق القرية الأسبوعي،وكانت الآبار عميقة وتتصل فيما بينها تحت باطن الأرض عبر أنفاق تتخللها فتحات تسمح بالتهوية.
قرب إحدى هذه الفتحات،التقى الشاب ع.ر. مع زملائه من الرعاة،وراحوا يمارسون شغبهم لتزجية الوقت عبر ألعاب مبتكرة.
يروى أن أحدهم قد انتزع منه طاقيته فنط ليسترجعها،لكن المسكين ربما دفعه طرف ثالث حتى لا يسترجع طاقيته ،مما زلت معه قدماه ليسقط في الفتحة العميقة المرتبطة بنفق ضخم تتدفق منه المياه.
انطلق صراخ الصبية لينتشر الخبر بين الأهالي وسلطات الحماية التي هرعت نحو المكان.
باءت كل محاولات المختصين بالفشل في الوصول إلى الأعماق لضعف اللوجيستيك،ولم يعد أمام الحاكم الفرنسي إلا ابتزاز أحد الأقارب الذي كان محكوما بالإقامة الجبرية في البلدة لسبب ما.
إنه المرحوم ج.حمو شحلال الذي كان معروفا بشجاعته،حيث أن الحاكم قد ربط رفع قرار الإقامة الجبرية عنه بالدخول إلى الأعماق بحثا عن الضحية،بل لقد وعده بمكافأة في حالة نجاح مهمته.
قبل الرجل التحدي ،فأجبر الأهالي على إحضار كل الحبال المتوفرة لديهم ،والمصنوعة بالصوف وشعر الماعز،وطلب منهم أن يقفوا على شفير الفتحة لتمكين البطل من بلوغ الأعماق.
وضعت السلطات المكلفة مصباحا مما كان متوفرا يومئذ على رقبة المغامر الاستغواري، ثم انطلقت عملية الهبوط نحو المجهول،ذلك أن مجرد إلقاء نظرة على مدخل هذا الدهليز،يثير في النفس خوفا قد يتحول إلى كوابيس مرعبة.
روى لنا المرحوم بأنه وصل إلى مكان حدوث المأساة،حيث وجد دماء الفقيد على حافة صهريج من الأسمنت، لكنه أيقن بأن المياه المتدفقة بقوة قد جرفته نحو المجهول.
بحث عن الهالك في المياه التي كانت في متناوله قرب الدماء، لكنه لم يجد له أثرا.
عندما أيقن الرجل بأن لا أمل في العثور على الضحية،عمد إلى تفعيل كلمة السر المتفق عليها عند الرغبة في العودة إلى السطح.
عاد ،،حمو،، بسلام تحت التصفقيات لقيامه بعمل بطولي، لكن فرحته لم تكتمل، حيث لم يتمكن من انتشال جثة الهالك.
رزئت أسرة ،،علاي،، ومعها كل المعارف وأبناء القبيلة في فلدة كبدها،وكان أملها أن يكون له قبر كسائر الأموات،لكن القدر شاء غير ذلك ،غير أنه ينعم بما خص به رب العزة كل الشهداء من عباده.
إن بعض هذه الأنفاق يبلغ أكثرمن كم من الطول ،وقد تجمعت فيها كميات هائلة من المياه يستحيل سحبها إلى الخارج بسهولة،ولذلك لم يكن من الوارد ألعثور على جثة الضحية.
إن في أعماق هذه الآبار أسرارا مرعبة،ذلك أنه لما حاول مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية إعادة الحياة للمنجم نهاية الستينات،
اضطر لاستخدام مضخات عملاقة لعدة أشهر دون أن تفلح في التخلص من المياه لتترك الحال على ماكانت عليه.
أما العمال الذين اشتغلوا يومئذ،فيروون أنهم وجدوا أدوات عمل حديدية في الأماكن التي، تراجع فيها منسوب الماء،لكنها تفتتت بمجرد لمسها، كما وقفوا على جداول ماء باطنية قوية التدفق.
وهكذا، فإن الشركة التي استأنفت الاستغلال في الثمانيات،كانت مجبرة على الابتعاد عن المنجم الأصلي لعدة كلمترات ،وفتح مناجم جديدة.
عندما كنا ندرس بقسم الشهادة الابتدائية على يد أخ الهالك، أستاذ الأجيال بسيدي لحسن ج.عبد الرحمان علاي -رحمه الله-كانت وصية الأسر تتجدد في كل مناسبة بعدم الاقتراب من مسرح الحادث المأساوي الذي كان على بعد أمتار معدودة من قسمنا.
لقد ظلت مغارة الموت مفتوحة دون أن يلتفت المنتخبون المتعاقبون إلى خطورتها.
لا شك أن معلمنا كان يعيش ذكرى أخيه كل يوم وعلى مدار العقود التي قضاها في التدريس غير بعيد عن البئر المشؤومة التي ظلت فاغرة فاها في انتظار حدوث مآس جديدة،بينما لا يحرك المنتخبون ساكنا!
لم تفض التحقيقات إلى تحديد طرف بعينه يتحمل تبعات ماحصل،لذلك انتهى النزاع إلى صلح بارد لم تندمل معه الجروح.
رحم الله الشاب ع.ر.وجعله في زمرة الشهداء الذين يصل ثوابهم إلى ذويهم كما وعد الله عز وجل عباده بذلك.
Aucun commentaire