عبارة » الإسلام هو الحل » بين تطرف بعض المحسوبين عليه وغلو بعض المحسوبين على العلمانية
عبارة » الإسلام هو الحل » بين تطرف بعض المحسوبين عليه وغلو بعض المحسوبين على العلمانية
محمد شركي
عبارة » الإسلام هو الحل » عبارة يتاجر ويرتزق بها فريقان على طرف نقيض، فريق محسوب على الإسلام ، يتبنى التطرف في فهمه وممارسته ، وفريق محسوب على التيار العلماني ، يتبنى التطرف في المطالبة بإقصاء الإسلام من حياة المسلمين لتحويل مجتمعهم المتدين إلى ما يسمى بالمجتمع المدني اللاديني.
والفريقان معا يطبع توجههما الغلو والتطرف ، والافتقار إلى الموضوعية والدقة والواقعية في التعامل مع واقع المجتمع المتدين والفاعل والمنفعل مع غيره من المجتمعات المتدينة وغيرالمتدينة .
وبيان هذا التطرف عند الفريق المحسوب على الإسلام أنه يقصد بعبارة » الإسلام هو الحل » العودة الحرفية إلى مجتمع عصر النبوة ، والخلافة الراشدة بعدها . وما يغيب عن فكر هؤلاء أن مجتمع عصر النبوة والخلافة الراشدة هو المجتمع النموذج الذي جعله الله عز وجل المثال الذي يقتبس منه فقط دون أن يكون بإمكان المقتبسين في عصر من العصور بلوغ شأوه ،لأن ذلك المجتمع كل من كان فيه يعتبر نموذجا قدمته رسالة القرآن الكريم الخاتمة والموجهة إلى البشرية كافة إلى قيام الساعة ، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مثله أحد من الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . أجل ما قيل له إلا ما قد قيل لهم من قبل ، ولكن ليست مهمتهم هي مهمته لأنهم أرسلوا إلى أقوامهم ، بينما أرسل هو إلى الناس كافة ، وشتان بين المهمتين . وكما أن رسول الرسالة العالمية الخاتمة يختلف عن رسل الرسالات السابقة مهمة وقدرا وشأنا ، فإن من عاصروه سواء من الذين صاحبوه أو من الذين حاربوه ليسوا كمن عاصروا غيره من الرسل والأنبياء مصاحبة أو معاداة ، ذلك أن أصحابه رضوان الله عليهم هم خيار الخلق على الإطلاق ، كما أن من عادوه هم شرار الخلق على الإطلاق . ولقد اختار الله عز وجل خيار الخلق وشرارهم للرسالة العالمية الخاتمة لأنهم كانوا نماذج بني تشريع هذه الرسالة على ما كانوا عليه من أحوال في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم ، وكل من جاء بعدهم يعتبر بالضرورة مشمولا بما نتج عن ذلك من تشريع كانوا هم سببا في وجوده ، وبعبارة أخرى كانوا هم أسباب التشريع ، ومن جاء بعدهم ينسحب عليهم أحكامه ، وهو ما تعبر عنه العبارة المشهورة : » العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب » .
وبناء على هذا لن تتكرر حياة عصر النبوة والخلافة الراشدة حرفيا لأنها نموذج جيل فريد ومتفرد تقتدي به البشرية في كل عصر إلى قيام الساعة على قدر وسعها وحسب ظروفها ،وتنهل منه دون أن تستطيع بلوغ درجة نموذجيته ، ولا تنقض ذلك عبارة : » لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها » التي يحتج بها من يزعمون القدرة على بلوغ شأو عصر النبوة والخلافة الراشدة ، لأن في الحياة النموذجية لذلك العصر ما تستمد منه البشرية في كل عصر بالقدر الذي يناسب عصرها لأن العصور لا يمكن أن تتشابه أو تستنسخ ، ولا يجب أن يفهم من هذا خروج الأمة المسلمة في عصورها المتتالية عن ثوابت الرسالة الخاتمة أو عن أوامرها ونواهيها ، ذلك أن كيفية ائتمار وانتهاء جيل عصر النبوة والخلافة الراشدة وفق التوجيهات الإلهية لن يشبهه ائتمار وانتهاء غيره من الأجيال في العصور اللاحقة . ولقد وصف القرآن الكريم نماذج من ائتمارهم وانتهائهم التي يستأنس بها ولكن لا يمكن أن تبلغ ما بلغته عند الجيل النموذجي.
أجل لن يصلح أمر الأمة الإسلامية عبر عصورها إلا بما صلح به أمرها زمن النبوة والخلافة الراشدة، لكن كيف يكون ذلك ؟ والجواب هو أن الأمة المسلمة في كل عصر إذا أحسنت الاقتباس من الجيل النموذجي ووفقت في ذلك ، ونزلّت من أحوال ذلك الجيل على أحوالها بالقدر الذي تقتضيه ظروفها صلح أمرها كما صلح أمر أولها.
ومن تنكب الموضوعية أن تهمل الظروف المتغيرة من جيل إلى آخر ، فالعبادات هي هي كما كانت في أول الأمة ،فلم يزد أو ينقص شيء من عدد ركعات عبادة الصلاة ، ولم يتغير من كيفياتها شيء أيضا ، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر بأنها تؤدى في أحوال لم تكن كأحوال أول الأمة ، ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر أن أمة عصر الطيران صارت تؤديها وهي في السماء ، وذلك ما لم يكن ممكنا قبل عصر الطيران . وقياسا على هذا المثال يمكن إدراك الفوارق في ظروف أول الأمة التي صلح أمرها ، وظروف من جاء بعدها ، الشيء الذي لا يعني ما يفهمه أصحاب الفكر المتطرف من المحسوبين على الإسلام ،والذين يعتقدون أنه بإمكانهم أن يعيدوا تجربة جيل عصر النبوة والخلافة الراشدة عبادات ومعاملات ،إعادة استنساخ ، من خلال تقليده في ألبسته أو لحاه أو غير ذلك مما كان عليه مما فرضته عليه ظروفه التي لا يمكن أن تتكرر في كل عصر لأن سنة الله عز وجل في الخلق أن تتغير ظروف حياتهم بغض الطرف عن طبيعة هذا التغيير سلبا أو إيجابا حسب تقديرات للحياة .
وتحضرني هنا حكاية سمعتها تحكى عن العلامة محمد الغزالي رحمه الله تعالى وقد لبس يوما بذلة ورابطة عنق ، فأنكر عليه ذلك شاب متطرف يلبس عباءة عفا عنها الدهر ، فسأله عن لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحرجه ، فأجابه بعدما أدرك قصده بأن لباسه عليه الصلاة والسلام كان كلباس أبي جهل في إشارة واضحة منه إلى أن الشاب قد أخطأ الفهم والحساب والتقدير حين ظن أن التزام لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يلزم المسلمين في كل عصر كما تلزمهم الأوامر والنواهي في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وقول العلامة الغزالي عن لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلباس أبي جهل يعني أنه كان يلبس لباس عصره ولم يمنعه من ذلك أن يلبس مثله رأس الكفر والشرك ، كما أنه نبه الشاب الذي كان يظن أنه يلبس ما كان يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان في نفي الوقت يلبس ما كان يلبسه أبو جهل ، ولو كان اللباس معيار الحكم على التدين لالتبس أمره على من يراه أمؤمن هو أم كافر ؟
وأمثال هذا الشاب الذي أخطأ التقدير والحساب والفهم في اللباس ، فاختلط عنده الثابت والمتحول في حياة الناس حسب ظروفهم كثيرون نراهم في زماننا بهيئات وألبسة يظنون أنهم بلبسها على صواب ، وأن غيرهم مبتدع فيما يرتدي ، وتقاس على هذا أمثلة أخرى يعتقدون أنهم فيها محقون ، وأن غيرهم مخطئون . وعن هذا الفهم القاصر والضيق ، وبين أحضانه نشأ التطرف ، واكتسى خطورة عند الغلاة من هؤلاء حين نصبوا أنفسهم أوصياء على الناس في تدينهم ، وصاروا يفتون في هدر الدماء وإزهاق الأرواح هتك الأعراض ، ونهب الأموال ، وهم يرفعون شعار : » الإسلام هو الحل » وهي كلمة حق أريد بها باطل عند هؤلاء الذين أخطئوا المرجعية الدينية الصحيحة ، وكانوا ضحايا جهلهم المركب .
وقد يتذرعون بورود أشكال من اللباس في كتاب الله عز وجل كما هو الشأن بالنسبة للباس المرأة المسلمة كالخمر والجلابيب ، وهي ذريعة مردودة عليهم لأن الله عز وجل أمر بستر جسد المرأة المسلمة وذكر ما كان متوفرا من اللباس زمن نزول الوحي ، ومراده سبحانه وتعالى ليس أشكال اللباس التي ورد ذكرها في كتابه الكريم ، وإنما مراده ستر جسد المرأة المسلمة بما يتوفر من لباس في العصر الذي تعيش فيه ، و المهم أن يكون مؤديا لغرض الستر. فالستر ثابت وشكل اللباس متغير . وعلى هذا الشكل يجب التمييز بين ثوابت الرسالة الخاتمة وبين متغيرات العصور المتتالية التي لا يغير شيئا من الثوابت .
ألم يكشف الواقع المعيش أن المسلم التركي اليوم ببذلته العصرية أحسن تدينا من غيره ممن يلبس العباءة والكوفية في بلاد أخرى ؟
أما بيان التطرف والغلو عند الفريق الثاني المحسوب على العلمانية ، وهو فريق مكون من صنفين ، صنف مقلد يقلد العلمانية الغربية التقليد الأعمى أو التقليد عن جهل مركب ، وهو صنف مخدوع ، وصنف يروم تسويق العلمانية الغربية في لباس خادع يوهم أنها ممكنة الوجود بل واجبة الوجود في مجتمع مسلم ، وهذا الصنف ينوب عن العلمانية الغربية في السعي إلى استئصال الإسلام من بيئته ليخلو لعلمانيته الجو وهو صنف مسخر عن وعي منه .
وأول ما يسجل عن هذا الفريق العلماني بصنفيه المخدوع والمسخر هو الجهل الفاضح بالإسلام، الشيء الذي يجعله يحكم عليه من خلال نماذج بشرية محسوبة عليه وقد لا تكون سليمة التدين مما يجعله يحشر في خانة واحدة كل المحسوبين عليه لا يميز بين مسلم حقا اعتقادا وممارسة ، وبين متمسلم إن صح هذا التعبير ، ونقصد به من يدعي الانتماء إلى الإسلام مع وجود ما ينقض ادعاءه في أفعاله ومواقفه .
والإسلام عند الفريق العلماني دين لا يجب أن يكون له وجود في الحياة ، ولا يعدو أن يكون عنده مجد طقوس تؤدى على هامش الحياة اليومية . ويسمح هذا الفريق بممارسة التدين طالما أنه لا يلامس واقع هذه الحياة ، ولا يزاحم طابعها المدني المادي المناقض للطابع الديني الغيبي .
ولا يقبل هذا الفريق مقولة » الإسلام هو الحل » وتقابلها عنده المقولة النقيض وهي » الإسلام هو المشكلة » ، ولا يقف اعتقاده عند حدود تحميل المحسوبين على الإسلام مسؤولية تلك المشكلة بل يتعدى ذلك إلى اعتباره هو المشكلة كدين بغض الطرف عن ممارسة من يدينون به .
ولا يقبل العلمانيون وجود إله يتحكم في إرادة الإنسان المؤله في الأرض ، ولا يؤمنون بعالم مغيب يقابل عالم الشهادة ويتحكم فيه بل هذا الأخير هو المتحكم وكل ما يوجد ، ولهذا لا تصح عندهم عبارة » الإسلام هو الحل » في حين تصح عندهم عبارة » الإسلام هو المشكلة » بل هو المعضلة بالنسبة إليهم .
ولما كان من الصعب تسويق فكرة إقصاء الإسلام من الحياة في مجتمع دان به لقرون و لا زال يدين به ، فإن الذين يعتبرون أنفسهم شطّار العلمانية يعولون على خدعة التلفيق بين ما يسمونه بالحياة المدنية وبين الإسلام ، ويدعون نوعا من التقدم في فهمه أكثر من المحسوبين عليه ، وقد ينظمون مناظرات أو موائد مستديرة أو برامج تنقلها بعض قنواتهم ، يستدرجون إليها أحيانا بعض المغفلين أو حتى بعض المستأجرين ممن لا يفقهون حقيقة عبارة « الإسلام هو الحل » لتسجيل تفوقهم عليهم ، والظهور أمام الرأي العام بأن إلمامهم بالإسلام هو الإلمام الصحيح ، وأنهم الأقدر على تطويعه ليكون مقبولا علمانيا حتى لا يعرقل مشروع العلمانية المتمثل في إقامة الدولة المدنية أو مدينتهم الفاضلة .
وبين تطرف الفريق المحسوب على الإسلام الجاهل بحقيقته ، وتطرف الفريق المحسوب على العلمانية والجاهل به أيضا في فهم عبارة » الإسلام هو الحل » ،يوجد الفهم الموضوعي والمتزن الذي لا يقول بإمكانية استنساخ عصر النبوة والخلافة الراشدة مع إهمال دور ظروف العصور المتغيرة التي تلته ، وهي ظروف لا يمكن أن تؤثر في ثوابته، وإنما تتكيف معها بشكل إيجابي ، و لا يقول في المقابل ما يقوله العلمانيون بإمكان إلغاء متغيرات الظروف ثوابت الدين.
وفي الأخير لا بد من الإشارة إلى أن الفريقين المتطرفين سواء المحسوب على الإسلام ، أوالمحسوب على العلمانية ينتج الواحد منهما الآخر ، وعلى قدر تطرف الواحد منهما يأتي تطرف الآخر، ويكون لكل فعل صادر عن الواحد منهما رد فعل عند الآخر، الشيء الذي يجعل المجتمع موزعا بين طرحين متطرفين ، وعلى طرفي نقيض، ثم يتحول إلى مجتمع لا إسلامه إسلام كما ينبغي ، ولا هو علماني كما هي العلمانية الغربية المتنكرة للدين علانية ، ويظل الصراع قائما فيه بين فريقين كلاهما لا يدرك معنى عبارة » الإسلام هو الحل »، وكلاهما جاهل بالإسلام جهلا مركبا مع إصرار على ذلك وغرور مثير للسخرية والشفقة في نفس الوقت .
ولن يتخلص مجتمعنا المسلم وغيره من المجتمعات المسلمة من آفة الصراع الدائر بين المتطرفين المحسوبين على الإسلام والمحسوبين على العلمانية وتداعياتها إلا بنهوض أهل العلم من أصحاب القدم الراسخة فيها بتداركها ، وقد انتدبت الرسالة الخاتمة هؤلاء للقيام بهذا الدور، علما بأن جهات مغرضة لا تدخر جهدا في الحيلولة دون الشعوب المسلمة ودون أولي الأمر من علمائها ، وهي تذهب كل مذهب في التشكيك في هؤلاء ، وتجعلهم في خانة واحدة مع جهّال يرتكبون الحماقات والفظائع باسم الإسلام لتشويهه ولحمل أعدائه على الشماتة به، وإلصاق تهم ثقيلة به كالإرهاب والكراهية … وهلم جرا .
فمتى سيضطلع علماء الأمة بدورهم في الأخذ بيدها ؟ ومتى ستفيق الأمة من غفلتها ، وتتنبه إلى ما يحاك ضدها من مؤامرات باتت مكشوفة ؟
Aucun commentaire