الآمر بالصرف !
رشيد شريت
أشياء كثيرة تغيرت في محيطنا و بنيتنا المجتمعية محدثة لقطيعة اجتماعية! فلم تعد الأسرة الحالية هي نفسها الأسرة القديمة، على عدد من الأصعدة و المستويات، بداية من عدد الأفراد و كذا الانتقال من الأسرة الممتدة التي تضمن الابن و الأب و الجد إلى الأسرة النواتية الضيقة. الأكثر من ذلك، تغير المرجعيات و الوظائف داخل الأسرة نفسها! حيث فقدت مؤسسة الوالدين و الأب تحديدا للكثير من صلاحيتها و هيبتها و وقارها و دورها التوجيهي و القيمي داخل الأسرة الحديثة!
لقد كان في السابق الأب هو المرجع و القدوة و المثل و النموذج الذي ينظر إليه بهيبة و احترام! و هي الصورة التي قد تلاشت بفعل عوامل التعرية الجديدة. فلم يعد الأب في القاموس المصطلحي الجديد للأسرة إلا مجرد ممول و بطاقة ائتمان و دفتر للشيكات و آمر بالصرف ! فغاب دوره التربوي و التوجيهي و حتى الاعتباري، و اكتفى بدوره الاقتصادي التمويلي في توفير الخدمات المالية للأسرة. و الفرق بين الأسرة القديمة و الجديدة، أنه في الأسرة القديمة كان من الممكن للأبناء أن يستغنوا أو قل يتخففوا عن أبائهم اقتصاديا من غير المطالب الأساسية التي هي المأكل و المشرب و المسكن، أما ما سوى ذلك فيمكن الاستغناء عنه، فالملابس يتم ترقيعها و توارثها حسب التراتبية العُمرية من الأكبر إلى الأصغر! و باستثناء كسوة العيد فالأب غير ملزم بشراء ملابس للأبناء، أما باقي المطالب الأخرى فتكاد تكون منعدمة.
أما في أيامنا غير الحلوة، فيجوز تسمية الوالد بالخازن أو دفتر الشيكات أو الآمر بالصرف! فهو يحضر حتى قبل ولادة المولود لأن المواليد الجدد أو عدد كبير منهم من الذين يولدون بالمصحات الخاصة يولدن عبر العملية القيصرية ! حتى أن « الكنوبس » احتج على المصات الخاصة لأن حطمت أرقاما قياسية في العمليات القيصرية وصلت إلى 59% وطنيا و بلغت 80% في عدد من المدن الكبرى و متجاوزة بذلك المعدل العالمي الذي يقف عند عتبة 20 %! و أنا متأكد أنه لو استمر الوضع على ما هو عليه لفرض على الأب أيضا عملية موازية مثل عملية نزع الزائدة حتى يضمن سلامة الجنين و المولود الجديد في مصادفات لا توجد إلا في دولة شاكرباكربن!
ثم تأتي العقيقة الفخمة و الختان و هلم جرا… فالحضانة الخاصة حيث تتعهد فيها الحضانات الخاصة بأن يكون أول ما ينطق به الطفل هو لغة موليير و فولتير! ما يجعل العائلة تطيرا فرحا لأن ابنها قد تفرنج! و بعد الحضانة و الروض تأتي محنة المدرسة الخاصة و النقل المدرسي و الدروس الخصوصية و الخرجات و الدخلات و المعهد الفرنسي و تعلم اللغات … و معه قاموس هات هات ! ناهيك عن ميزانيات لا حد لها، و أقلها مثلا ميزانية خاصة للحلاقة بعضها لا يقل عن 200 درهما! و هكذا كلما تقدم الابن في العمر كلما زادت المصاريف و المتاعب. حتى إذا دخل الابن معهدا محترما أو أقل احترما سواء كان خاصا مؤدى عنه أو عموميا، انتقلت المطالب إلى شراء سيارة للابن و الابنة للتنقل إلى المعهد! ناهيك عن المصروف اليومي الضخم الذي قد يصل إلى 200 و 300 درهم ما يفوق « السميك » أضعافا مضاعفة! فيتحول الوالد إلى رب شركة و ليست أسرة !
و بذلك تتقلص العلاقة بين الأب و الابن إلى مجرد علاقة مالية محضة! أما السيدة الوالدة التي كانت في الماضي تقوم بدور الوساطة بين مؤسسة الأب المهيبة الجناب و بين الابن ذي المطالب المتواضعة إن لم نقل الحقيرة! حيث عادة ما كانت تميل بكل ما أوتيت من قوة رمزية عاطفية لدعم الملف المطلبي « الحقير » للأبناء، و التي لن تصدق أجيال اليوم أنها كانت مطالب قد يَـحُول عليها الحول و الحولان من دون أن يتم البث فيها! عكس أم اليوم، و التي لا محل لها من الإعراب لانعدام الوساطة! فالابن و الابنة تخاطب السيد مدير البنك المركزي و الآمر بالصرف من دون وساطة! و السيد الآمر بالصرف يفاوض الفرقاء الاجتماعيين في طبيعة المطالب الجديدة، و بغية تحقيق السلم الاجتماعي، متشهدا بالفواتير و المصاريف المريخية التي يقوم بدفعها كل شهر!
و نجزم أنه كل آمر بالصرف يمكنه أن يخرج لنا كشفا دقيقا للحسابات عن تكلفة كل ابن منذ لحظة الاستهلال القيصرية و إلى التخرج! لذا، فلا ضير أن يتحول الأب إلى مستثمر بعد كلما أنفقه من أجل تعليم و تكوين الأبناء، و لا أقول تربيتهم لأن الهم التربوي كان غائبا مغيبا! و عليه، فعدد من الأسر و العائلات يجب أن تضم للسجلات التجارية عوض سجلات الحالة المدنية !
1 Comment
مقال في الصميم