قراءة سوسيولوجية لأحسن القصص 8 بقلم عمر حيمري
انتشر خبر خيانة زليخة انتشار النار في الهشيم ، وكذلك تشيع وتنتشر أخبار الفاحشة والخيانة الزوجية ، والزنا ومقدماته ونتائجه بصفة عامة ، وكظاهرة اجتماعية يكثر من حولها اللغط والهمز واللمز واللغو ويعتمد الانتشار الواسع والسريع فيها على الإشاعة ، والرواية الكاذبة الملفقة ، وسمعت ، وقيل لي ، وقال لي . يحدث هذا في كل المجتمعات وفي كل زمان، أذكر هنا نموذج حديث الإفك ، وما دار حوله من أكاذيب ، ومن تهم كاذبة لفقها المنافقون ، يقصدون من ورائها نشر الفاحشة في الذين آمنوا . ولمعالجة هذه الظاهرة الاجتماعية المرضية ، أمرنا الله سبحانه وتعالى ، أن نجتنب الحديث بالبهتان ، فيما يمس الأعراض وشرف الناس فقال : [ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المومنون والمومنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم ياتوا بالشهداء فأولائك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مومنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين أمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ] ( سورة النور من آية 11 إلى آية 20 )
علمت نسوة المدينة بالفضيحة وتحدثت في الموضوع ، وقالت ما قالته من سوء في زليخة وضلالها وشغفها بيوسف عليه السلام ، وما أكثر ما يقال وما يفيض من حديث في مثل هذه المواقف …[ وقالت نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ] ( يوسف آية 30 ) وتشعر زليخة بالحرج بنشر هذا الخبر المخجل فتحاول تبرير موقفها والدفاع عن نفسها وعن كبريائها وهذه أيضا حالة نفسية تتكرر مع تكرار مثل هذه الحوادث في الزمكان ، قد نسميها بظاهرة التبرير ، وحتى تدافع زليخة عن نفسها ، لجأت إلى الحيلة والتجربة الفعلية لتتأكد نسوة المدينة أن زليخة كانت معذورة لشغفها بحب يوسف وفي نفس الوقت لتحول بين النسوة وبين الاستمرار في مكرهن وانتقادهن لها والكلام في عرضها وشرفها والتعريض بها ، وهي الحرة سيدة القصر وامرأة العزيز ذات الجاه والقدر العظيم [ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيدهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن إلا ملك كريم ] ( يوسف آية 31 ) . لما رأت زليخة ما رأته من تقطيع النسوة لأيديهن ، شعرت بنوع من النصر وبرد الاعتبار لشخصها وجاهها العظيم ، فلم تكن وحدها إذن ، التي شغفت بيوسف وأحبته إلى درجة الجنون ، بل حتى نسوة المدينة أفقدهن جمال يوسف ، الذي كان المبرر لحب زليخة والانبهار به ، عقلهن ووعيهن وحتى الإحساس والشعور بأيديهن ، إذ وصل بهن الأمر إلى تقطيع أيدهن دون إحساس منهن فصرحن واعترفن صراحة ، بأن زليخة محقة في مراودتها ليوسف وأنها كانت معذورة في مراودتها له ، لأنها لم تستطع مقاومة جمال يوسف ولا شهوتها وحبها الشديد ليوسف وخاصة وأن النفس البشرية ميالة للجمال ولا سيما عندما يكون الجمال معجزة كجمال يوسف . لقد وجدت زليخة في تقطيع الأيدي ، التبرير القاطع لخيانتها خصوصا وأن النسوة اعترفت وسلمت بدون تردد عدم قدرتهن على مقاومة جمال يوسف عليه السلام ، الذي أفقدهن الشعور بالإحساس بأيديهن فقطعنها ، فكان ذلك اعتراف وإقرار منهن على أن زليخة ، لما انبهرت بالجمال المعجز ، وراودت يوسف عليه السلام عن نفسه ، كانت معذورة في تقدير النسوة ومن وجهة نظرهن ، وأن الأمر مقبول ومشروع بالنسبة لهن ، ولا يمكن تفاديه على الأقل من الناحية النفسية لارتباطه بالعطفة . [ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ] ( يوسف آية 31 و32 ) . لما رأت زليخة ما رأته من تقطيع النسوة لأيديهن ومن أمر إعجابهن بجمال يوسف شعرت بنشوة الانتصار على النسوة اللاتي كن قد أكثرن القيل والقال في شرفها فشعرت برد الاعتبار لشخصها وبأنها كانت معذورة وربما حدثت نفسها بأنها كانت محقة ، في مراودتها ليوسف ، الذي أحط من قدرها وكبريائها ومرغ أنفها في التراب ، لرفضه الرضوخ لنزواتها الشهوانية وعدم الاستجابة لسلطة الهو الحيواني الغريزي عندها ، و حتى تحافظ زليخة على هيبتها وكبريائها وسمعتها كسيدة داخل القصر ، أسرت على النيل من يوسف والانتقام منه وإذلاله بإدخاله السجن . ف [ قالت فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ] ( يوسف آية 32 ) وهذا حال الظالمين في كل زمان ومكان . إذا انفضح أمرهم ، وبان وظهر الحق ، وشعروا بالحرج وبأن صورتهم والهالة التي بنوها حول أنفسهم ومن حولهم ، والسلطة التي يتمتعون بها قد اهتزت أو بدأت في الاهتزاز ، لجأوا إلى أساليب التهديد والوعيد والتعذيب والعقاب ، ولكن يوسف عليه السلام ، الذي رأى برهان ربه ، الذي صرف عنه السوء والفحشاء لصلاحه ولتقواه وخوفه من ربه وطاعته له ، ما كان ليرضخ ويستسلم لنزوات وشهوات زليخة العابرة ولا لأوامر السيدة الآمر والناهية في القصر، ولا للظلم الذي مورس عليه . بل لجأ إلى مولاه مستنجدا به طالبا حمايته ولكنه ولحكمة يعلمها الله ، دعا على نفسه بالسجن ، ـ ربما لحجم الضغوطات النفسية التي مورست عليه ـ بدلا من أن يدعو لنفسه فقال : كما أخبرنا القرآن الكريم [ قال ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ] ( يوسف آية 33 ) فاستجاب له ربه ، لأنه كان من عباده الصالحين ، وكذلك دعاء الصالحين لا يرد [ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ] ( يوسف آية 34 ) .
Aucun commentaire