تحديات صناعة النموذج: الجامعة ومأزق التنمية الجهوية
د. بلقاسم الجطاري
عرفت الجامعة المغربية، منذ عقد ونيف، انطلاق مشروع إصلاحي كبير استوجبته الشروط الموضوعية التي برزت بداية الألفية، وهكذا تم تنزيل رُزْنَامة من التدابير البيداغوجية والتكوينية والتشريعية، واكبتها قرارات سياسية عَرْضَانية مست قطاعات اجتماعية ومؤسسية أخرى، وخصوصا في قطاعات ذات صلة، من قبيل؛ التعليم المدرسي والصناعة والتجارة والفلاحة والسياحة وغيرها، والتي عرفت بدورها، منذ عقد ونيف، انطلاق أوراش تنموية كبيرة (المغرب الأخضر، المخطط الأزرق..)؛ وهي أوراش إستراتيجية خرجت إلى الوجود في سياق استكمال الورش الملكي السامي الذي بدأ منذ إحداث مؤسسة محمد الخامس للتضامن (1999)، وإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2002).
من واجبنا اليوم أن نسائل ذواتنا، باحثين، وفاعلين مؤسسيين، في سياق تقييم المنجزات، عن حصيلة الإصلاح، وأن نسلط الضوء عما ينبغي فعله لاستدراك الهفوات وتحسين الأداء وتجويد أشكال التدخل السوسيومهني، وذلك في أفق اقتراح مشروع وطني كبير متعدد الشركاء والمتدخلين، يجيب عن انتظارات المغاربة؛ أفرادا ومؤسسات، ويستجيب لاحتياجات البلد الاجتماعية والاقتصادية والروحية والثقافية.
إن وضعنا التنموي لا يسير بالسرعة المطلوبة، والمؤشرات التي تدل على ذلك كثيرة، نورد من بينها بطء معدلات النمو السنوية، واستقرار نسب البطالة في معدلات مرتفعة، وعدم امتلاك المقاولة المغربية للتنافسية المطلوبة، وغيرها من المؤشرات التي تدعونا إلى مسارعة الخطى وتكثيف المجهودات، حتى يتسنى لنا وضع قاطرة التنمية على سكتها الصحيحة.
حديثنا عن هذه المؤشرات يدفعنا إلى مساءلة أدوار الجامعة المغربية ومدارسة مسؤولياتها، كما يحثنا على التفكير بِرُويّةٍ في السبل الكفيلة بتعزيز مساهمتها في تدبير الاحتياجات السوسيواقتصادية لجهات الوطن وأقاليمه. فهل تساهم الجامعة في هذا الباب؟ وما هو مقدار مساهمتها بالنظر إلى ما يتوفر لها من بنيات وعتاد وميزانيات وطواقم؟
ليس مُتَيَسّرا تقديم الجواب الدقيق عن هذا السؤال ؛ ولكن المُتَيَسّرَ أن نقول إن التجارب الإنسانية قد علمتنا ألا نهضة ولا تنمية بغير جامعة قوية مبادرة وذات جاذبية. ولهذا السبب لا نرى من فائدة في مناقشة سؤال الحاجة، وعِوَضا عنه مناقشة سؤال السبل والطرائق، وتركيز الجهد على صياغة سياسات بحثية وجامعية ذات نَفَسٍ تنموي ومحتوى استشرافي يضعان المشاريع الجامعية في قلب انشغالات المواطنين وهمومهم، ويقدمان الحلول العملية الناجعة لمشاكل التشغيل والأمن المادي والروحي والتعليم والصحة وغيرها.
الشروط الموضوعية متوفرة بإجماع الفاعلين والمنشغلين بإشكاليات تطوير أداء الجامعة المغربية، لذا نعتقد أن الأوان قد حان لكي تضع الجامعة المغربية، أساتذة وأطرا إدارية وهيئات في التدبير الإداري والبيداغوجي، خارطة طريق طموحة، وصياغة خطة عمل واقعية تضع نصب عينها ملاءمة مخرجاتها مع احتياجات المحيط السوسيومهني، ووضعها رهن إشارة المؤسسات الراغبة في تحريك عجلة الاستثمار والاقتصاد الجهوي والوطني، وتعزيز خيار المهننة، ذات الصلة بمختلف أنواع الثروات والمؤهلات التي تزخر بها الجهات المغربية، وتجعل من مختبراتها العلمية، وبنياتها البحثية محاضن لبلورة المشاريع التنموية المدرة للدخل، والصديقة للبيئة.
إن الغاية من هذه الورقة هي الدعوة إلى التفكير في السبيل الأنجع لجعل الجامعة المغربية مؤسسة رائدة في إشاعة قيم الإبداعية، وبيان « الممكن التنموي » الذي يمكن أن تساهم الجامعة في تحقيقه بعيدا عن دائرة الاستثمار الدولتي الإرادوي الذي أظهر قصوره وفشله في إحداث التنمية المستدامة. وهذه الغاية من الممكن بلوغها بتوفر إرادة سياسية قطاعية في مرحلة أولى، من خلال رفع تحدي الإسهام الريادي لقطاع التعليم العالي في جر القطاعات الأخرى وتوجيهها صوب استراتيجيات قطاعية متكاملة.
الغاية ليست طوباوية، وتحقيقها أمر ممكن متى توفر مناخ الثقة بين مختلف الفاعلين، ومتى تم الحرص على إنجاح تجارب جامعية نموذجية تخلق القدوة وتحفز الطواقم البشرية العاملة بالجامعة، وتحثها على الانخراط في مشاريع التأهيل والتطوير بحماسة وعزيمة. إن جزءا كبيرا من موارد الفشل في تجاربنا الإصلاحية مرده إلى غياب النموذج الملهم، والتجربة الناجحة، لذلك من المناسب أن ندعو في ختام هذه الورقة إلى مباشرة مشروع تجريبي نموذجي بجامعة واقعة بإحدى الجهات ذات المؤشرات التنموية الضعيفة، مع تعبئة الحد الأقصى من الإمكانيات والموارد البشرية والمادية والتشريعية التي تضمن نجاحه وإنجاحه
Aucun commentaire