تكويـن إيـهْ ؟
تكويـن إيـهْ ؟
سعيـد عبيـد
لا يمكنك أن تفهم ما يجري في قطاع التربية الوطنية بالمغرب إلا إن كنت غير ذي عقل، وإلا فذو العقل ههنا لا بد يشقى بعقله شقاء مستمرا، لا توقفه أقوى تيارات الأمل الجارفة عن غواية اليأس القاتلة.
من كل ركام الهزائم التي سِيق إليها التعليمُ في المغرب موسما بعد آخر، دون أن يُحاسب عليها وزير واحد منذ الاستقلال، أقف عند مأساة مراكز التكوين التي هي آخذة في الاستفحال بما لا يتناسب بالبت والمطلق مع الشعارات الخشبية الجوفاء التي ما فتئ مخططو الهزائم يرددونها، حتى ما عاد يصدقها منا نحن – العاملين بقطاع التعليم، فأحرى من غيرنا – أحدٌ. ومن بين ركام سوء التخطيط والتدبير الذي ارتفعت وتيرة حياكته ضد هذه المراكز في الآونة الأخيرة، أقتصر على الوقوف عند حدَثيْن أخِيريْن اثنين، وهما حسْبي، يجعلان من منطوق التدبير رقم 16 من التدابير التي وصفتها الوزارة ذات عَجَلة بأنها « ذات أولوية »، مجرد ديماغوجية مُضحكة مُبكية، وفقاعة شِعارية إعلامية فارغة. فإذا كان التدبير المذكور ينص بعظمة لسانه على « الرفع من جودة التكوين الأساس للمدرِّسين »، بما يقتضيه ذلك من تأهيل للمراكز علميا ومهنيا ولوجيستيكيا، ومن صرامة مؤسسية قانونيا وإداريا، ومن عدم التساهل مع اللاَّتكوين وفقدان الأهلية التربوية مطلقا، فإن كل تلك الأحلام الوردية تنهار وتندكُّ دكا دكا بين يدي المُعطييْن المُستجدَّيْن الآتييْن:
1- استفراد الوزارة – دون أي تشاور مع المراكز – بالإقدام على إغراق التعليم الوطني بعدد مهول من الأطر غير المكوَّنة بِداعي الخصاص المستعجل، وكأن هذا الخصاص لم تعلم به الوزارة التي تملك مُديرية (قدها قد السَّخط) اسمُها « مديرية الاستراتيجية والإحصاء والتخطيط » إلا في نونبر! رافعة شعار « توظيف بلا تكوين »، على النقيض تماما من الشعار الذي أحرق ثلثي السنة التكوينية المنصرمة « تكوين بلا توظيف »، مما لا يعلم إلا الله ثم المستشرفون ما يُنذر به « التعاقد » (بهذا التسرع العبثي اللامُهيكل) من نُذر سُودٍ تلوح في الأفق، أفقِ الإجهاز الأخير على حق أولادنا من الأجيال الآتية في تعليم عمومي مشرِّف، يدعونه زورا وبهتانا « تعليما مجّانيا »، وما هو إلا « حقُّ عموم المواطنين في التعليم »، مما يَدخل في صميم أُوليات واجبات الدولة إزاءهم، بموجب العقد الاجتماعي الذي يربطهم بها، مما يخولها التصرف في خيرات بلدهم، واستخلاص الضرائب المباشرة وغير المباشرة من أرزاقهم !
2- استنزاف قرابة أربعة أشهر (إلى حد الآن) من عمر الموسم التكويني الجاري، دون ظهور أية إشارة إلى قرب الإعلان عن مباراة الولوج إلى (م ج م ت ت) لـ 2016/2017، مما يهدد بسنة تكوينية « بيضاء »، أو مرتجلة، أو مستعجلة غريبة كالسنة الماضية، في إطار استهداف الموارد البشرية للمدرسة العمومية، وهي آخر ما تبقى لها من رأسمال، أو لربما في انتظار الاستغناء نهائيا عن مراكز التكوين، ما دام « التعاقد » لن يقتضي غير غلاف زمني تكويني محدد في ساعات أو أيام معدودة، سيتداعى إلى كعكتها مُرتزقو التكوينات كالعادة !
هذا المعطى الأخير أصبح يشكل كابوسا حقيقيا للعاملين بمراكز التكوين – وأنا منهم – لأنه يُدخلهم في عطالة إجبارية، ويُطفئ فيهم الروح المهنية، ويَحرمهم لذةَ العمل التي تُكسب وجودَهم العلميَّ والمهنيَّ معناه، وتحقق لأجرتهم الشهرية مدلولها ومشروعيتها. كما لا يخفى أنه يشكل تعذيبا نفسيا مستمرا لعشرات ألوف الشباب المُجازين الواقفين في طابور المنتظرين على أعصابهم منذ يوليوز المنصرف على امتداد ستة أشهر كاملة من ترقبِ الذي قد لا يأتي!!! ولا من يعبأ بهم، أو يطمئنهم ولو ببلاغ، وكأن أولاء الجاثمين على كراسي الوزارة لم يكونوا يوما في حياتهم طلبة أو طالبي عَمل، لا سيما أن بعض المنابر « الصحفية » المتاجرة في مآسي الناس كانت قد أعلنت منذ بداية الصيف أن « الوزارة عازمة على الإعلان عن مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، تهم 8000 منصب، في غضون الأسبوع الجاري »!! فمر الأسبوع الذي كان جاريا، والأسبوع الذي يليه، والأسابيع تلو الأسابيع، والشهور تلو الشهور، دون أن تتضح إلا صورة شرذمة من « المسؤولين » المتكبرين المتعنجهين، وطائفة من الكتَبة الكذَبة مُدَّعي العمل الصحفي… وفي غضون ذلك، أعلنت كافة مراكز القطاعات الأخرى التي تحترم نفسَها مباريات ولوجها، وبعضها منذ شهر ماي الماضي البعيد (كالمعاهد العليا لمهن الصحة والتمريض، ومعاهد تكوين التقنيين المتخصصين، والمدرسة الوطنية العليا للإدارة…)، بل إن مباريات التبريز في شعب الفرنسية والترجمة والاقتصاد لدورة ماي 2017 الآتي البعيد أيضا، قد أعلنت عنها وزارة التربية الوطنية نفسُها راغمةً منذ نونبر الماضي، (بـ 6 أشهر قبل المباراة، عجبا!) وما ذلك – يا للمفارقة المُرّة، ولْيزُلِ العَجب – إلا لأن نظام التبريز (مع الأقسام التحضيرية والباكلوريا الدولية، شعبة الفرنسية) تحت اليد الوصيَّة الحديدية لفرنسا التي لا تقبل أن تُعطي الدنيَّة في تعليمها، كيف لا وهي التي تعدّ ذلك مع مدارس بعثاتها التعليمية امتدادَها التربوي الحيوي، مما حملها الشهر الماضي على أن تجرَّ الاتحاد الأوربي إلى أن ينفح وزارة « تربيتنا الوطنية » بـ 90 مليون أورو في إطار برنامج (Education 2) لـ »دعم منظومة التربية والتكوين بالمغرب »، زعموا!
كتبت منذ شهرين متحدِّيا ما أُعيده الآن: « مرت سنون خمسٌ على دستور 2011 وخطاب الملك الذي وصف بالتاريخي، لتضمُّنه مبادئ جديدة في الحياة العامة والسياسية، أبرزها مفهوم « ربط المسؤولية بالمحاسبة » الذي جاء النص عليه في الفقرة الثانية من الفصل الأول للدستور؛ من فضلكم، من رأى منكم محاسبة مسؤولٍ فليخبرني، ومن منكم يعلم كيف يمكن للشعب الذي انتخبه أو انتخب من عيّنه محاسبتُه، فليخبرنا بالمؤسسات والآليات والخطوات الكفيلة بذلك، وأجره على الله!«
وفي انتظار ذلك، لا يسعني إلا أن أصرخ في وجه من « لا يهمه الأمر » بملء الفم صادقا: « اللهم إن هذا منكر صُراح »، وبملء السخرية المُرّة متهكما: « تكوين إيهْ اللِّي انتَ جاي تؤُول علِيهْ؟ »
1 Comment
كلام منطقي وهو عين الصواب وتعبير بحرقة كبيرة عن الانتكاسة التي تعرفها منظومة التكوين التي ابتليت بجماعة من عديمي الضمير من مديري المراكز الذين يسوقون لانفسهم بانهم خبراء امام وزارة فقدت البوصلة وسيطر ت عليها عصابة هي الاخرى اصبحت خبيرة في ضبط الصفقات على مقياسها ومن بعدها ياتي الطوفان .وزارة اصبحت فاقدة للبوصلة .ولا ادل على ذلك من الوضع الكارثي الذي اوصلوا اليه البلد .والمتمثل في الخصاص الذي يحرم ابناء المغاربة من حقهم في التمدرس . تحياتي لك سعيد عبيد .. واقول لك بان كلامك لاراحة ضميرك اما من تخاطبهم فقد دفنوا ضمائرهم منذ ان تعلق قلبهم بحب المال وخدمة الاسياد والتزلف لهم …. تبا لهم وعلى تفكيرهم .ولكن التا ريخ لايرحم ويومها سيعرفون اي منقلب ينقلبون