ظاهرة اكتظاظ الفصول الدراسية وآثارها على مكونات منظومة التربية والتكوين
ظاهرة اكتظاظ الفصول الدراسية وآثارها على مكونات منظومة التربية والتكوين
بقلم: نهاري مبارك(*)
مقدمة:
لقد حددت الجهات المختصة أنه يمكن الحديث عن اكتظاظ فصل دراسي ابتداء من تشكيله من خمسة وأربعين تلميذة وتلميذا. لكن، بغض النظر عن تعريف إجرائي للاكتظاظ في المجال التربوي والتعليمي، وتحديد العدد الأقصى للمتعلمين بفصل دراسي، فإنه، وبالرجوع إلى الواقع المدرسي، يسجل بالملموس أن نسبة كبيرة من الفصول الدراسية في المؤسسات التعليمية العمومية، بمختلف أسلاكها، أصبحت، منذ مدة، تستقبل أعدادا كبيرة من المتعلمين، حيث تعج قاعات الدروس بالتلاميذ، ولا يبقى أي حيز أو رقعة إلا وتم استغلالها، إذ يجلس أحيانا ثلاثة متعلمين على طاولة واحدة مزدحمين لا تسعهم مساحة هذه الطاولة، ولم تبق ممرات أو مساحة فارغة تسمح للمدرس بالمرور ومراقبة التلاميذ عن قرب، ما يعني، بالنظر إلى المساحة المتوسطة لقاعات الدروس، أن عدد التلاميذ بكل فصل دراسي تجاوز الطاقة الاستيعابية لهذه القاعات في عدة مؤسسات تعليمية عمومية، وبدا جليا تكدس التلاميذ في جميع جنبات قاعات الدروس، مما يعني أن أعداد التلاميذ في عدة فصول دراسية فاق كل التوقعات.
فما هي الآثار المترتبة عن اكتظاظ الفصل الدراسي من حيث الجوانب التربوية والتعليمية؟
سنحاول مناولة هذا السؤال المحوري المؤطر لظاهرة الاكتظاظ من خلال الفقرات التالية:
I. آثار الاكتظاظ على التلميذ(ة) بمرافق المؤسسة التعليمية:
يتم إحداث مؤسسة تعليمية بناء على توقعات أعداد التلاميذ الممكن استقبالهم في زمن محدد بحي ما أو قرية أو مدشر، لكن عدد السكان سرعان ما يرتفع، لعدة عوامل، وبشكل صاروخي، في غفلة من كل التوقعات، فيرتفع عدد الأطفال الممدرسين منذ الالتحاق بالمدرسة، مرورا بجميع الأسلاك والمستويات الدراسية، وتتضاعف المشاكل منذ مدخل المؤسسة التعليمية الذي يشهد ازدحاما وتدافعا وصراخا وفوضى، كما تشهد الساحة كثافة مهولة، بحيث قد لا يوجد شبر من الأرض إلا وفيه تلميذ(ة)، مما يضطر الطاقم الإداري والتربوي بذل جهود مضاعفة لاستتباب الأمن والنظام لتفادي كل ما يمكن أن يتسبب في حوادث، قد تكون ذات عواقب وخيمة على التلميذ(ة) والإدارة التربوية.
كما تشهد جميع مرافق المؤسسة التعليمة كثافة التلاميذ وازدحامهم، فالمراحيض لم تعد كافية ولم تستجب لحاجيات جميع التلاميذ في زمن محدد، ما يحدث فوضى وشنآنا تنجم عنه مشاداة كلامية وسباب وشجار يفرغ مجهودات التربية من محتواها ويجردها من مقاصدها وأهدافها النبيلة.
أما مستودعات الألبسة وساحات الرياضة والتربية البدنية، فلم تعد تستوعب كثرة الأفواج وكثافة التلاميذ، الذين تواجههم عدة مشاكل لخلع ملابسهم وارتدائها، وارتداء ملابس الرياضة وخلعها، ما يحرج التلميذات والتلاميذ في ما بينهم هم، وبينهم وبين مدرسيهم، الأمر الذي يسهم في كسر حاجز الحشمة والحياء، وما يضطر بعض التلميذات والتلاميذ إلى ارتداء ملابس الرياضة والتربية البدنية لمدة نصف يوم أو أكثر، ما ينعكس سلبا على صحتهم النفسية والجسمية جراء العرق ورائحة الأرجل بأحذية الرياضة، كما ينعكس على التركيز والانتباه واستدماج المعلومات واستيعاب الدروس وفهما.
II. آثار الاكتظاظ على التلميذ(ة) داخل قاعة الدرس:
يعتبر النظام والهدوء أهم عوامل نجاح تواصل الأستاذ مع المتعلمين، لكن تحت وطأة الاكتظاظ، أصبحت حجرة الدرس ميدانا لأحداث هامشية تنزل بكل ثقلها على سير العملية التربوية وتؤثر فيها سلبا. فمنذ انطلاق الحصة الدراسية، تتوالى مشاهد هامشية مصدرها التلاميذ، فمنهم من يتأخرون عن موعد الدرس فيتصدى المدرس لهم وتضيع منه مدة زمنية لا يستهان بها، تخصم، كرها، من الحصة المخصصة للدرس، ومنهم من لا يجد طاولة فيضطر إلى البحث عن مقعد أو طاولة بالقاعات المجاورة، ما يتطلب وقتا، ومنهم من يستغل الفوضى فيزيد الطين بلة، ويخلق مناخا مكهربا، ومنهم من يصرخ ويستفز الأستاذ والتلاميذ، ومنهم من لا يتوفر على كتبه أو دفاتره وأدواته المدرسية، ما يؤدي إلى حدوث شنآن بين الأستاذ والتلاميذ، ومنهم من يثير بلبلة حول نقط الفروض المحروسة، ومنهم من يرفض إنجاز الواجبات المنزلية، ومنهم من يعمد إلى العنف وانتهاج السلوك الخشن وإحداث الشغب والتلفظ بالكلام البذيء فيصبح الأستاذ سخرية واستهزاء… جراء كثرة حالات الاستفزاز وتباينها وتعدد مصادرها.
III. آثار الاكتظاظ على الأستاذ(ة):
وهكذا يسجل، داخل حجرة الدرس، توالي هذه الأحداث وتناسلها، تستفز الأستاذ وتثير غضبه أحيانا، فتتحول قاعة الدرس إلى ميدان صراع ونزاع وتبادل السب والقذف والعنف، جراء كثافة التلاميذ في ظل مناخ، غالبا، مكهرب، يعمد التلاميذ افتعالها لجر الأستاذ إلى حالة غضب وفقدان الصواب المؤديين غالبا إلى ما يقصده التلاميذ، خصوصا منهم المشاغبين وغير المبالين. هذا القصد المتمثل في المساس بشخص المدرس والاستهزاء به، ما قد يؤدي إلى عدم إنجاز الدرس، الأمر الذي يهدف إليه التلاميذ من وراء كل سلوكاتهم الخشنة، وما يؤثر على برنامج المدرس والمقرر السنوي، أو عدم إنجاز فرض محروس، أو التخلص من واجبات منزلية، أو غير ذلك من القضايا التي لا تروق التلاميذ، أو على الأقل البعض منهم.
وقد أجزم بعض الأساتذة أنه، في بعض الفصول الأكثر اكتظاظا، يتم التصدي في كل دقيقة، تقريبا، لحدث هامشي، لا يمت للدرس بصلة، صادر عن تلميذ معين، هدفه الشغب وعرقلة سير إنجاز الدرس، مستغلا الانفلات الأمني الناتج عن ارتفاع عدد التلاميذ الزائد عن الطاقة الاستيعابية لقاعة الدرس. وعليه، ففي مثل هذه الأوضاع المتكررة، يسجل المدرس أن زمنا كثيرا من الحصة الدراسية يهدر سدى، ما يؤثر سلبا على محتويات الدرس والطرائق البيداغوجية الموصى بتطبيقها تربويا وتعليميا.
وفي غالب الأحيان، يعيش المدرسون المسندة إليهم الأقسام المكتظة حالة قلق مفرط، وهستيريا أحيانا، عند ملاحظتهم ارتفاع درجة الشغب وسيادة الفوضى، وعدم تمكنهم من ضبط المشاغبين لكثرتهم واندساسهم وسط كثافة التلاميذ. وقد تؤدي، بالأستاذ، هذه الأحداث المتكررة إلى انقباضات وتوترات، قد تفقده صوابه أو وعيه، وقد يغمى عليه جراء تشنجات عصبية متواترة، فتتسبب له في أمراض خطيرة تنعكس على صحته ومساره المهني.
وبالتالي، وفي ظل هذه الأجواء المكهربة والخانقة، وبالرغم مما أوتي المدرس من مهارات وكفاءة وفاعلية، يجد نفسه عاجزا عن أداء رسالته التربوية، وخلق بيئة تعليمية سليمة وملائمة، تخول له القيام بأنشطة تعليمية متنوعة وإدارة المواقف التعليمية بالشكل الذي يسعفه على تحقيق الأهداف المرسومة وفق معايير الجودة وأسس النجاعة التعليمية المرغوب بها.
IV. آثار الاكتظاظ على إنجاز الدروس:
ومن المعلوم أن التوجيهات التربوية المعتمدة، توصي بأن المتعلم في التدريس الفعال ينبغي أن يكون محور العملية التربوية، نشطًا، يشارك في بلورة الدرس، يحاوِر ويتواصل أخذا وعطاء، يناقش مختلف الوضعيات الإشكالية ويحاول تحليلها وفهمها، فيقدم تفسيرات وتأويلات من خلال التفاعل والانتقاد فيعلق، وينتقل متدرجا من التطبيق إلى مراقي التحليِل والتركيب والإدماج والإنتاج والإبداع والابتكار وإصدار الأحكام.
لكن حالات الاكتظاظ التي تشهدها أغلب الفصول الدراسية حسب المناطق والجهات، تشكل عائقًا يحول دون تفعيل مقتضيات البيداغوجيات النشطة والفعالة المتمحورة حول التلميذ مشاركة وإنتاجا؛ باعتِبارها مقاربة تعليمية تعلمية ناجعة، حسب المنظرين لها والمدافعين عنها.
وبشكل عام، أي بيداغوجيا يتم اعتمادها لإنجاز الدروس في ظل كثافة التلاميذ المرتفعة داخل الفصل الدراسي، وارتفاع درجة الشغب، وعدم الانضباط، خصوصا مع عدم نجاعة آليات التأديب التربوي؟
وهكذا يصبح هاجس الأستاذ، تقديم الدرس ونقل مضامينه إلى التلاميذ، مركزا على الكم من خلال الإلقاء لشغل التلاميذ ما أمكن، متجاوزا كرها، الجودة التعليمية الموصى بها، التي تبقى بعيدة التحقيق في ظل مناخ غير صحي تربويا وتعليميا. وهكذا يبدو التواصل التربوي شبه مستحيل، تعترضه عراقيل وتشوبه شوائب، تقف حاجزا أما التنشيط المنشود والجودة الموصى بها والفعالية المبتغاة، لتبقى كل الأهداف المسطرة حلما بعيد التحقيق.
V. آثار الاكتظاظ على التقييم التربوي:
وإذا تعالت أصوات داعية إلى محاربة الغش في الامتحانات والقضاء عليه، فإن مختلف الإجراءات والتدابير لم تذهب إلى اجتثاث جذور هذه الظاهرة الضاربة في عمق الواقع التعليمي والمدرسي. ولئن كانت عوامل وأسباب الغش مختلفة ومتباينة، فإن اكتظاظ الفصول الدراسية، الذي قد ينضاف إلى ظاهرة الأقسام المشتركة، قد يسهم بحصة الأسد في تفشي هذه الظاهرة في جميع الأسلاك والمستويات الدراسية. إن كثافة التلاميذ المرتفعة، وانتشارهم واحتلالهم لكل رقعة من مساحة قاعة الدرس، تقف حاجزا منيعا أما قيام الأستاذ بمراقبة مجريات اختبارات الفروض المحروسة، وحركات التلاميذ، فيبدو عاجزا عن ضبط الغش وتبادل التلاميذ المعلومات في بينهم، ما يؤثر سلبا في عملية تقييم التحصيل الدراسي وتحديد المستويات التعلمية الحقيقية عند التلاميذ.
من هنا تنشأ وتتنامى ظاهرة الغش في الامتحانات، فما درجة نزاهة وموضوعية عملية التقييم التربوي؟ وكيف يمكن تقييم المستويات التعليمية الحقيقية للتلاميذ؟ وكيف يمكن معالجة ثغرات التحصيل الدراسي عند التلاميذ؟ وكيف يلمس المدرس مدى إنجازاته وجهوده؟ وكيف يمكن تحديد مدى نجاعة الطرائق والوسائل التعليمية المستعملة؟
وكيف يمكن وضع الأصبع على مدى جودة مضامين المقررات الدراسية؟
VI. آثار الاكتظاظ على تصحيح إنتاجات التلاميذ:
قد تجتمع عوامل متعددة ومتباينة وتشكل حاجزا أمام نزاهة وموضوعية عملية التقييم التربوي، ومنها ظاهرة الاكتظاظ التي قد تعيق عمليات كثيرة كما أسلفنا، تضاف إليها عملية تصحيح إنتاجات التلاميذ، فكيف يمكن لمدرس مسندة إليه فصول مكتظة ترتفع أعدادها إلى غاية اثنى عشر قسما، القيام بعملية تصحيح نزيه وموضوعي لما يناهز ست مائة ورقة مختلفة المحتويات مضمونا وأفكارا وتعبيرا وأسلوبا، خصوصا، تحت ضغط مواعيد إرجاع الأوراق ومسك النقط؟
وقد تزداد عملية التصحيح تعقدا وصعوبة وافتقادا للنزاهة والموضوعية، حين تجتمع ظاهرتا الاكتظاظ والأقسام المشتركة، فيجد الأستاذ نفسه يعاني قلقا وتوترات عصبية قد تعصف أحيانا بحالة صحته النفسية والجسمية.
خاتمة:
في الختام، يبدو أن ظاهرة اكتظاظ الفصول الدراسية، إلى جانب ظاهرة الأقسام المشتركة أخذت تكتسح الساحة التربوية وتتنامى، وتؤثر سلبا في مختلف مكونات منظومة التربية والتكوين المادية والبشرية، كما تؤثر سلبا في مختلف العمليات التربوية والتعليمية: إنجاز الدروس، التقييم التربوي، التصحيح، التوجيه التربوي…
ولتجاوز هذه الوضعية وتحسين ظروف العمل التربوية والارتقاء بالتحصيل الدراسي وضمان الجودة التعليمية بات من الضروري في اعتقادنا:
1. إعطاء الأولوية للبنايات المدرسية وإعداد العدد الكافي من قاعات الدروس لاستقبال أعداد التلاميذ في جميع المستويات وضمان تمدرسهم في ظروف مريحة؛
2. تطعيم أسرة التعليم بالعدد الكافي من المدرسات والمدرسين المتمرنين والمؤهلين أكاديميا ومهنيا؛
3. توفير المناخ السليم، ماديا ومعنويا، للمدرسات والمدرسين للقيام بالمهام المنوطة بهم لتأديتهم الرسالة التربوية النبيلة الموضوعة على عاتقهم في ظروف مواتية؛
(*) مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية.
Aucun commentaire