من أرشيف الصحراء:أوسكار لينز يصل إلى تندوف(1880)
رمضان مصباح الإدريسي
(1)
تقديم:
تحيتي إلى القراء الأعزاء في هذا الحضور الرمضاني البهي؛اخترتها حلقات من رحلة ممتعة –وان كانت محفوفة بالمخاطر بالنسبة لصاحبها- نرافق فيها الرحالة الألماني ،العالم الجغرافي والمستكشف الشجاع،الدكتور « أوسكار لينز »- 1848.1925 -الذي يعتبر أول أوروبي تطأ أقدامه مدينة تيندوف المغربية سنة 1880 ؛انطلاقا من المغرب طبعا .
على خطى هذا العالم المغامر سارت الكتيبة العسكرية الفرنسية الأولى ،التي لم تطأ تراب تيندوف- لأول مرة – إلا في سنة 1927؛وانطلاقا من المغرب دائما؛كما أثبت ذلك عالم الصحراء تيودور مونود، في المقال الذي نشرته في الموضوع:
« في تيندوف ثلاث مدن مغربية »
لنمارس صحراءنا – كما قلت سابقا – وان كره الكارهون ؛ولنلاحق المُخَلفين بأرشيفها القديم ،نلقيه في وجوههم ؛ونستمد منه وهج الإقبال على الصحراء الآمنة،اليوم ؛كما أقبل عليها الأوروبيون، وهي بسباعها وضباعها وقطاع طرقها ؛وبالضمأ سيد القتلة في الصحراء..
الانطلاق من « اليغ »:
في الصفحات السابقة أتيت على وصف الاستعدادات التي سبقت الشروع في رحلتنا إلى الصحراء.
ظل سيدي حسين ،والى آخر لحظة،معترضا على سفرنا ،مُعرقلا له بشتى الدسائس.وحده الخوف منعه من المجاهرة بعدم موافقته.
وأخيرا تمكنا، يوم 4 أبريل 1880،على الساعة الحادية عشرة صباحا، من مغادرة مدينة ،أحسسنا جميعا إزاءها بالرهبة ؛خصوصا وقد وُصفت لنا ،منذ مراكش، على أنها المرحلة الأخطر في طرقنا كلها.
قدنا ، بصعوبة،جِمالنا المثقلة إلى خارج المدينة ؛ولعل سبب المشقة يكمن إما في كون رجالي لم يتمرسوا بعد بتثبيت الأحمال فوق الجمال ،وإما في سبب آخر. لقد اضطررنا إلى توقيف قافلتنا في ممر ضيق لتصحيح الخلل؛ وهذا ما جمع حولنا بعض الناس .
تعرفنا ضمنهم على بعض اليهود ،من أقرباء « مردوخاي أسرور ». كانت بحوزتي رسائل توصية الى هذه العائلة ،من مردوخاي نفسه ،مكنني منها بباريز؛سلمتها لهم ،وقد عبروا عن استعدادهم لمساعدتي في كل شيء. لقد عشت بهذه الأقطار ما يكفي لمعرفة الوضعية الحقيقية لليهود. ليس بوسعهم فعل الكثير ؛وهم في كل أمورهم متوقفون على المسلمين.
ها قد خلفنا وراءنا مدينة « اليغ »،وها نحن في الهواء الطلق ،فوق نجد كبير تحده جنوبا سلاسل جبلية صلداء. اعتلينا جمالنا ولم يبق إلا أن أتعود على ركوبها..
شعرت، في ركوبي, بمتعة تهادي الجمل في مشيته ،لكن يبقى علي أن أتعود على هذا العلو؛ راكبا بدون لجام ولا ركاب،وبدون أي سند لا لليدين ولا للرجلين.
بدأنا ،أولا، بصعود مجرى واد ي « تزروت » ،وصولا الى سفح سلسلة جبلية ،تمتد من الجنوب الغربي الى الشمال الشرقي .إنها تنتمي لبنية جبال الأطلس ،وهي من « الجرانيت » و « الشست » خصوصا .
المنحدر الشمالي شديد الوعورة،تتخلله نتوءات صخرية حادة ومعزولة ،هنا وهناك؛ وهي تبدوا شديدة الروعة. يمتلك سيدي حسين قلعة مشيدة على إحدى هذه النتوءات الصخرية.
الحصن الصغير المسمى أغادير قائم فوق أعلى قمة صخرية حادة المنحدرات ؛الوصول إليه متعذر كلية، حسب ما يبدو. شُيد هذا الحصن القوي من طرف أسلاف سيدي حسين؛أما اليوم فقليلا ما يتم اللجوء إليه..
بعد ساعات من المشي في طريق قاحلة جدا ،لكن واضحة المعالم ،وصلنا الى سفوح الجبال المرتفعة ،حيث نحن، ب4000قدم؛أما القمم المجاورة فهي لا تتجاوز ارتفاع 5000قدم.
يبدو المنظر من هنا بالغ الأهمية: في اتجاه الشمال تتراءى المنحدرات العمودية ،وجبال الأطلس المتوسط .هكذا يمكن أن نسمي هذا الجزء من الجبال التي تتوسطها هضبة « اليغ »؛ وصوب الجنوب تتلاشى في متتالية من سلاسل الهضاب ،ينخفض علوها تدريجيا.
في شعابها ،وحتى على قِممها المستوية ، تتعاطى الساكنة الشغالة ، من « الشلوح » ، لزراعة الشعير.
منزل مثير للريبة:
انحرفنا في سيرنا شرقا ،لنصل في المساء الى آخر منزل من منازل قبيلة « مجاد »؛ حيث أمضينا الليل ؛وهي قبيلة بربرية ،على غرار قبيلة « تزروالت ».
في الصباح الموالي استيقظنا باكرا ،وما كادت الساعة تبلغ السادسة حتى كانت كل جمالنا الثمانية على أتم حال للرحيل. مشينا لساعات عبر هضبة صخرية خفيفة التموج ،الى أن بلغنا بعض المساكن.
يبدو المكان قليل الساكنة ،إذ لم نصادف في طريقنا غير قلة من الناس؛ونادرا ما كنا نرى حقولا مزروعة.
في هذا المكان غادرنا الدليل الذي خصنا به سيدي حسين ،إذ كان عليه أن يمضي الى « تامانات ».
منذ مدة ونحن نظهر عدم اعتمادنا عليه .بغتة ،وقبل أن يمضي،طالُبنا ب 30 دورو ،أجره عن مرحلة ونصف ،مما قطعناه. يبدو المكان غير آمن؛يضاف الى هذا كون ساكنة المنزل المنعزل ،الذين أجرى معهم دليلنا حديثا طويلا وسريا،لا تبعث على الارتياح.
حينما باغتنا الدليل بطلبه الوقح تأكدنا أنه يدبر لنا أمرا ما ،وقد تعمد توتير الأجواء بيننا . وما دمنا وعدناه في اليغ ببعض « الدورويات » فقد أعطيناه أربعة منها.بعد أن عبر عن عدم رضاه ،ولج المسكن المشبوه ،ليعاود الظهور راضيا.خرج في أعقابه شخص آخر وعرض علينا خدماته فرفضنا.
البلد غير مأهول ،لكن الجبال يمكن أن تخفي كل أشكال الأشخاص الخطيرين؛وهذا الدليل لا يمكن الاطمئنان إليه.
في الليلة المنصرمة انضم إلينا رجل يقصد تندوف ،بجمل واحد عليه حمل صغير من الجلود،فلم أعترض على رفقته الزائدة. يفيدني كثيرا وجود الشريفين محمد ،من تافيلالت ،ومولاي هاشم من مراكش؛ إنهما شخصان حازمان ،وأعتقد ألا أحد يمكنه اعتراض طريقنا في وجودهما.
في الجبال عيون تراقب:
لدينا الآن إحساس بالتواجد في منطقة خطيرة ،حيث هناك من يراقب كل تحركاتنا .لم نر أحدا لكننا واثقون من صدق إحساسنا. حتى دليلنا يؤكد على هذا ؛وهو يخبرنا بتواجد عصابات من قطاع الطرق منحاشة في الوديان.
دفع التوجس كلا من الشريف محمد والحاج علي إلى تقدم الركب ،على حصانيهما، لتقصي الوضع في الآجام المحيطة بالطريق؛حتى لا نُباغت بكمائن مُحتملة.لم يسفر البحث عن أي شيء من هذا.
فجأة ،وحوالي الساعة الثانية،تراءى لنا رجال يتحركون على مسافة منا؛جهة اليمين. وما هي إلا برهة حتى ظهر أمامنا زنجي؛وقف متفرسا في وجوهنا ثم انصرف.أعقَبَ هذا سماعُنا ثغاءَ خرفان وماعز ؛ثم بدا لنا أربعة رجال زنوج يقودون هذا القطيع وبعض الجمال.
أخبرونا بكونهم ينتمون للشيخ علي ،من قبيلة « ماريبدة تيزكي ». يحمل رفيقنا الحاج علي رسالة توصية موجهة لهذا الشيخ. كشفنا لرئيس القافلة الصغيرة – أمحاميد- عن وجهتنا ؛فما كان منه إلا أن أثنانا عن المرور عبر « تامانات » و « اشت » ؛بذريعة وجود صعوبات كثيرة ستعترض طريقنا.
في المقابل اقترح علينا التوجه صوب سيده الشيخ علي ؛وقد قدمه لنا على أنه إنسان جيد ،وبنفوذ كبير؛وبوسعه ،بكل تأكيد، تيسير رحلتنا الى » تيمبوكتو ».
( لقائي هذا بخدم الشيخ علي شكل أهمية قصوى بالنسبة لي ؛وأستطيع أن أقول ،بعد أن خبِرت الناسَ في هذه الربوع،بأن الصدفة وحدها هي التي قادتني للتعرف على هذا الشيخ الذي مكنني من تحقيق هدفي:بلوغ تيمبوكتو.)
غيرنا خططنا،ثم صرفنا دليلنا الذي لا يبعث على الطمأنينة الكاملة؛وسرنا في رفقة الزنجي أمحاميد ،وقد خلف ،لاحقا،في نفوسنا وقعا محمودا.
في طريقنا قُطاع:
أفضى بنا المسار إلى سفوح سلسلة جبلية ،بمنحدرات بطيئة صوب الجنوب؛ ورغم هذا لم يكن عبورها سريعا.
قيل لي بأن وجهة الجنوب الشرقي تفضي إلى مدينة « أقا » ،مستقر عائلة « مردوخاي » اليهودية .
تتبعنا لمدة السرير الجاف لوادي « أودني »؛وهو يشكل ،طبعا، الامتداد المتوسط لوادي « أساكا »(أو واد ي نون).انه بعرض كبير ينم عن كِبر النهر. في مكان محاط بصخور أطلعني جعلني رفاقي أستمع الى صدى عذب. إن الكيفية التي تراصت بها الصخور جعلها تصدر صوتا ينعكس عدة مرات.
ما أن صعدنا الى مرتفع حتى أبصرنا فجأة ،في الامتداد الذي كان يبدو مقفرا كلية،أشخاصا بملامح قاسية يتوسطون ،مع خيولهم ، الطريق ؛على غرار قطاعها. ما أن اقتربت منهم القافلة حتى بدت منهم تصرفات مسالمة ؛مقتصرين على تبادل أطراف الحديث مع بعض رفاقي.
لا أستطيع أن أجزم باحتمال وجود تواطؤ بين الدليل الذي غادرنا وهذه العصابة؛ ولا بكون الصدفة التي جمعتنا بالزنجي امحاميد أفشلت خطة كانت ستضع حدا، غير متوقع، لرحلتي.
حوالي الساعة الرابعة توقفنا فوق هضبة بارتفاع 700م.لم نُقِم خيامنا لأن المكان بدا غير آمن.كان بوسع الحيوانات أن تتعشب وتستريح؛أما نحن فقد شرعنا في إعداد العشاء. ما أن حلت الثانية صباحا حتى كنا في الطريق؛عاقدين العزم ،ما وسعنا ذلك، على بلوغ « تِزْكي » في نفس اليوم.
مياه المكان شديدة الكبريتية ،و بمذاق رديء جدا،ورائحة متميزة.المنطقة ،بصفة عامة،قليلة المياه ؛وقد تمكنا اليوم ،ولأول مرة، من ملء قرابنا .
ألح علينا أمحاميد بأن نسرع في مغادرة المكان ؛إذ من غير المستبعد ،حسب قوله، أن ينضم قطاع الطرق الذين مررنا بهم الى غيرهم ،لمباغتتنا. هذا ما جعلنا ننطلق في الساعة الثانية ؛تحت سماء غائمة وظلام دامس. لم نبلغ هدفنا إلا بعد انصرام الخامسة مساء؛وبعد أربعة عشر ساعة من السير المتواصل
قادنا الطريق عبر منعرجات جبلية مقفرة فقيرة المياه؛ تحت سيادة قبيلة آيت ابراهيم ،ذات المضارب البعيدة عن مسارنا،جهة الشرق.
حوالي الساعة الحادية عشرة دَلَفنا إلى المجرى الواسع والجاف لوادي » تامانات »،الذي يصب في وادي درعة؛ على مسافة ساعات من جنوب « فم الحصن ». بدءا من هنا تستوي الأرض أمامنا.
حوالي منتصف النهار تجاوزنا قرية مهجورة للشلوح .وفي الساعة الثالثة اتسع أمامنا فجأة مجرى « تامانات » ليشكل سهلا ممتدا أمامنا .تكثفت النباتات وبدت جذوع النخيل هنا وهناك.
على يسارنا تراءت قصبة « تامانات »؛ في موقع جذاب بمنحدر الجبل.
يتبع
بتصرف عن :
Dr OSCAR LENZ:
TIMBOUCTOU
VOYAGE AU MAROC AU SAHARA ET AU SOUDAN
TOME 2. PARIS 1887
TRADUIT DE L4ALLEMEND PAR PIERRE LEHAUTCOURT
Aucun commentaire