دلالة العنوان في مسرحية ( يوميات مسحوق)
بدعم من وزارة الثقافة قدمت جمعية مسرح لبلاد بوجدة عرضها المسرحي الجديد (يوميات مسحوق) بمدرج الكلية المتعددة التخصصات بسلوان وذلك يومه الخميس19 مايو1916 على الساعة الرابعة عشية. ونظرا للثراء الجمالي والدلالي الذي عبر عنه العرض سنكتفي بالوقوف عند دلالة العنوان.
-دلالة العنوان..
لا تنحصر مهمة العنوان في كونه كناية أو آستعارة للنص، عن طريق الإختزال إلى أقصى الحدود. قد تكون هذه إحدى وظائف العنوان لكنها حتما لا تشكل وظيفته الوحيدة، فالعنوان هو أولا وقبل كل شيء عنصر من البنية الإجمالية للنص، يستبقها، ويستذكرها ويدل عليها بتكثيف أنظمتها الدلالية، أو بالإشارة إلى البذرة المولدة لثيمها؛ وذلك آنطلاقا من حضوره، في بداية السرد الذي يدشنه، وربما تكرر ظهوره بصور مختلفة في ثناياه .. علاوة على أن العنوان هو أيضا أداة وصل وتعديل للقراءة أو الفرجة في حالة العرض، وذلك بالقدر الذي يحاول فيه العمل على تحيين عنصر من الحكاية، أو تقديم المعادل الرمزي لهذا النص، أو الإيحاء بأجواء عالم الأثر l’œuvre.
ولكن على الرغم من الأهمية الوظيفية لجملة هذه الكفاءات التي هي بحوزة العنوان، فإنها لا ترشحه لقول الخطاب، فقد يوحي العنوان بأجواء الكون الحكائي لكنه لا يؤثت هذا الكون، تلك مهمة السرد الذي يليه.
إن المعنى الذي يدشنه العنوان يظل معلقا ينتظر آكتماله »هناك«، في المجاري التي يسلكها آنسياب السرد. وبفضل هذه الصفة يشكل العنوان أداة وصل للفرحة وتوجيهها، لأنه وآنطلاقا من نفس الصفة يستطيع أن يهمس للمتفرج بأفق آنتظار ممكن.
بعد ذلك تأتي حكاية النص إما للتعبير عن عنوانها مشبعة مستواه التأشيري عاملة على فك شفرته أو شفراته؛ أو لتشدد على الوظيفة الشعرية للعنوان، محولة هذا المستوى التأشيري إلى قيمة يندمج بفضلها العنوان، ضمن تعددية أصوات النص منصهراً بفضاءات كونه الدلالي.
بناء على هذه المطارحة الوجيزة حول القيمة الوظائفية التي يشغلها العنوان في بنية النص سنحاول مقاربة عنوان مسرحية (يوميات مسحوق).
لنذكر اولا ان العنوانالاصلي للنص كما كتبه المؤلف لحسن قناني هو ميكروكراسي.
فإذا كانت لفظة »ميكرو كراسي «هي التي تدشن السرد، أي هي المنبع الذي آنطلاقا منه تشرع الحكاية في شق مجاريها عبر سهول السرد ووديانه ووهاده. فإنها بهذه الصفة تضع بين أيدينا معول الحفر الفيلولوجي، وتلقي بنا في حقل دلالي تتشكل مرجعيته آنطلاقا من إيحاء مجموعة من الكلمات المركبة المتاخمة لعبارة العنوان في حقل الدلالة وذلك من قبيل »ديموكراسي«، »بيروكراسي«،» تكنوكراسي« وغير ذلك.
فإذا كان المضاف في كل هذه الملفوظات مختلفا، فإن المضاف إليه واحد في كل الحالات وهو »كراسي« cratos وتعني السيادة أو السلطة؛ والتي هي سلطة الشعب في اللفظة الأولى، وسلطة المؤسسة في اللفظة الثانية، وسلطة التقنيين في العبارة الثالثة، وبالتالي فهي سلطة الميكرو في لفظة العنوان »مكرو كراسي«.
وإذا كان آنسياب السرد في حكاية المسرحية يأتي لإشباع الحقل الدلالي لهذه العبارة جاعلا من الميكرو شخصية محورية لها حضورها القصدي في خطاب المسرحية وكذا على الركح؛ فإنه إنما يفعل ذلك آنطلاقا من جعل الميكرو مصدراً للسلطة، سلطة الكلام، أي معادلا رمزيا لامتلاك الحق في الكلام علما بأن السلطة المضمرة في امتلاك هذا الحق تتمثل في أن الذين يعترفون لشخص بهذا الحق، إنما يمنحونه القدرة/السلطة، على حرمانهم من ممارسة نفس الحق.
إن عبارة العنوان في المسرحية وبقدر ما عملت على تحيين عناصر من النص –(الميكرو كفاعل أساسي وكمحور تدور حوله الأحداث، وآنطلاقا منه يتشكل نسيج النص، وثيمة السلطة، كثيمة أساسية في بنية الخطاب)-بقدر ما عملت على تقديم المعادل الرمزي للنص/ »ما أن ينطق لسان ولو في صميم الذات … حتى يعبر عن سلطة معينة «(رولان بارت).
إلا أن آنسياب السرد في المسرحية لا يقف عند إشباع المعنى الإشتقاقي لعبارة العنوان بل ينفتح على حقل دلالي أوسع وعلى معاني أخرى تشكلت في ثنايا الخطاب الفلسفي المعاصر، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلمة »ميكرو« تعني ما هو متناهي في الصغر ضد » ماكرو «، فتصبح عبارة العنوان ميكرو كراسي دالة على أشكال السلطة المتناهية في الصغر micro-pouvoirs إذ عادة ما كان يُعتَقد أن السلطة إنما تتجلى في أعلى ذراها/جهاز الدولة، في حين أن مفهوم السلطة مفهوم زئبقي يصعب الإمساك به، إنها تختفي وتتفتت حتى في أكثر الممارسات الاجتماعية آبتذالا، أنها توجد في مناطق مجهولة لا يظن أحد أن فيها سلطة، إنها إذن ذلك الشيء السري الغامض، المرئي وغير المرئي، الظاهر والباطن، الحاضر والغائب. إن السلطة لا تتموقع فقط في ما تظهره/ جهاز الدولة، بل في ما تخفيه أيضا، إنها مبعثرة في أمكنة شتى من جسد المجتمع، وذلك ما عملت المسرحية على إظهاره مشبعة بذلك هذا المستوى الثاني من مستويات الدلالة التي يحبل بها العنوان في مسرحية (يوميات مسحوق).
2) ملخص لمضمون المسرحية:
يتشكل النسيج الفكري والدرامي لمسرحية (يوميات مسحوق) آنطلاقا من الخيوط التي يغزلها السرد في حكايا »عَمّي المُختارْ مسَلَّكْ لَيَّامْ«، الفاعل الأساسي المنُوط بنشر غسيل التردي والتفاهة واللامعنى فوق حبال الفن. و « المختار » هذا رجل كهل بسيط حنكته تجارب أسفار العمر في حياة مليئة بالمفارقات، يشتغل عونا « شاوش » في إحدى قاعات الحفلات، قاعة آعتلى منصتها « علماء وساسة ومفكرون » وخطبوا على الناس، وحدثوا الناس عن الناس وعن دنيا الناس !.
وذات مرة بينما كان المختار منهمكا في إصلاح الميكرو، خظرت على باله مفارقة عجيبة، لقد آنتبه فجأة إلى أنه رغم كونه الشخص الوحيد الذي يعتنى بهذا الميكرو كلما ألم به عطب،إلا أنه الوحيد الذي لم تواته الفرصة أبداً لإسماع صوته من وراء هذا الميكرو.. عند هذه اللحظة يضيء فانوس الفن السحري ليُنطق الجماد، يتأنسن الميكرو ويقترح على المختار أن يأخذ حقه في الكلام: أليست فرصة المحروم من الكلام، إن رام أخذ حقه في الكلام، هي أن يتكلم !؟
إنه إذن وحتى لا نقول إصلاح، عزم الفاعل الأساسي على النبش في حالة الإفتقار في الوضع الأصلي، من هنا تبدأ الرحلة، رحلة »عمي المختار «في لا وعي اللاوعي، وإذا آستعرنا هيدجر سنقول أن المختار قرر أن يشيِّد عمارة الكلام لكي يسكن، قرر أن »يتكلم الكلام الذي سقط في النسيان«، فالمختار، الإنسان البسيط، سيصبح ومنذ هذه اللحظة الموجود المبرهن، الذي يعطي الدليل على الغياب، سيتحدث في الميكرو، سيعبّر، بل سيصبح من فرط آندماجه فيما يعبر عنه، مجرد وسيلة في يد هذا المعبِّر عنه كي يفصح عن كينونته.
هي إذن فرصة لإبراز المقارنة بين لغة »البهوات« أي اللغة التي »تحجب الإنسان عن الكلام«، ولغة المختار، أي الكلام الذي سقط في النسيان، المفارقة التي ستتسع الهوة بين أقطابها شيئا فشيئا عبر محطات الرحلة؛ لأنها تضرب بجذورها عميقا في حياة المختار، الذي لن يجد وسيلة لإبراز ملامحها خيراً من قدح زناد الذاكرة والتشبث بحبل التداعيات.
إنه الكلام الذي سقط في النسيان إذن، وقد واتته الفرصة كي يطفو على السطح، كي يكشف عبر اندفاعاته وتموجاته عن كل السلطات الصغيرة اللامرئية التي تكبل المواطن البسيط.
وبما أن هذا الحديث سيصدر عن شخص لم تتح له أبداً فرصة الحديث، كـ»عمي «المختار، فلا بد أن يكون حديثا ذا شجون.
سيتحدث أولا عن الفن الرديء، أول جرح سيخدشه الحرف المنسي ليكشف عن مكامن الصدأ، ليبين كيف استطاع مثل هذا الفن أن يتدثر برداء عصرنة مزعومة شاقا طريقة إلى وجدان الناس، إنها سلطة التفاهة إذن والقدرة الخارقة التي أضحت بحوزة التافه في زمن التفاهة، كي يطمس كل ما هو عميق وصادق.
سيتحدث أيضا عن نوع من الشعر، سماه بشعر »الزوابي «والذي جعل أصوات شعراء مثل » أبي الدباز المتبنّى «–وللإسم دلالته- تطغى لفرط مداهنتها وتمسحها بالأعتاب على الكثير من الأصوات المهووسة بالرؤيا والصدق.
وسيكشف المختار أن الفرق بينه وبين هذا النوع من عطاري الكلام، هو أن هؤلاء يملكون حق الكلام، كحق يجعل من حاز عليه يملك صلاحية حرمان من منحوه إياه من ممارسة نفس الحق؛ تلك هي القاعدة الدهبية، والإستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو أن تنتزع حقك في الكلام ولو على مستوى الوهم الذي يتيحه الفن، ما دام تحليك بالصدق في زمن التفاهة والإبتدال يجعلك تفتقر إلى من يعترف لك بالقدرة والكفاءة على ممارسة هذا الحق.
هذا الأمر هو الذي جعل شجرة الكلام تزهر على شفتي المختار، ولكن لا ينبغي أن نلوم المختار إن كانت ثمار هذه الشجرة مرة كالحنظل، فذلك لأن جذورها تمتص رحيقها من حياة المختار ومَنْ شاكل المختار، وهي حياة متخمة بالمرارة.
وعلى هذا النحو سيتخذ المختار من قاعة الحفلات معادلا رَمزيا للعالم الخارجي، أو نافذة يطل من خلالها على هذا العالم ليكشف عن السُلَط المتناهية في الصغر والتي تستعصي عن إدراك العين المجردة.
وهكذا فبعد تعريته في المشاهد الأولى لسلطة النغم المشبوه، والنظم المتواطئ والكَلِم المقنع، يتابع رحلته ليكشف عن فضاءات أخرى للسلطة، كما تتجلى في سلطة لألقاب والمراتب ضمن مواقع رقعة الشطرنج الإجتماعية، وحيث يصبح اللقب هو الذي يمارس مهمة معينة وليست الكفاءة، ليكشف لنا بعد ذلك عن سلطة الإعلام المرئي من خلال آستحضاره للكاميرا كأداة لا تُظهِر إلا لكي تُخفي، ولا تصرّح إلا لكي تطمس، ولا توضح إلا لكي تلقي بعيون الناظر في متاهة الإلتباس.
بعد ذلك سيتخذ المختار من الحديث الحماسي الذي ألقاه أحد » المفكرين «عن الديمقراطية، ذريعة ليخرج بنا من قاعة الحفلات إلى العالم الكبير محاولا نحت تعريف خاص به عن الديمقراطية؛ فتغيب قاعة الحفلات وتحضر أماكن أخرى: الحافلة، البيت، المدرسة، »الجوطية«، مركز الشرطة، وغيرها، وفي هذه الأماكن يحضر العالم الخارجي، وفي العالم الخارجي يحضر الوطن، وفي الوطن تحضر المفارقة بين تعريف ذلك »المفكر الكبير« للديمقراطية، وواقع الممارسة الفعلية، وعلى الرغم من أن محطات حياة المختار » الغنية « بالمرارة والمفاجآت ظلت بعيدة عن أن يستنفذها السرد في المسرحية إلا أن حكايات هذا الرجل البسيط قد آستطاعت بفعل ما آتصفت به من عفوية وصدق أن تشبع بالفعل المستوى التأشيري للعنوان في مسرحية (يوميات مسحوق).
Aucun commentaire