أي مدرسة لجيل الغد؟ رؤية استشرافية الجزء الأول: التعليم الأولي
أي مدرسة لجيل الغد؟
رؤية استشرافية
الجزء الأول: التعليم الأولي
بقلم: نهاري مبارك (*)؛
من خلال رؤية استشرافية تتأسس على إسقاطات وأحكام استباقية في أفق معانقة غد غير بعيد، رؤية تغوص في مسارات زمنية مستقبلية، وانطلاقا من أوضاع أسرية واجتماعية قد تزداد تفاقما، وانطلاقا من واقع منظومة تربوية وتكوينية تحتضر وفق شهادات الفاعلين التربويين، وقد شلت مكوناتها، وتعالت أصوات الإصلاح والإنقاذ، وانبرت أقلام عديدة من مختلف الفاعلين التربويين والمهتمين بالمجال التربوي، انكبت على الكتابة والبحث حول نظام تربوي بديل، حرصا منها على وضع أسس جديدة لتكوين الناشئة وأجيال الحاضر والمستقبل بشكل يضمن حقوقهم في الشغل والعيش الرغد والحرية والكرامة. كما بادرت جهات مختصة ومهتمة رسميا بالشأن التربوي، إلى تنظيم مشاورات موسعة، انطلقت من تشخيصات وأفضت إلى مقترحات شكلت رؤية إستراتيجية، تحت شعار » من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء ».
ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تم إرساء مجموعة من التدابير تحت عنوان » التدابير ذات الأولوية »،التي تبدو أنها ذات طابع استعجالي، تمتد على مدى خمسة عشرة سنة، وتندرج ضمن مشروع الرؤية الإستراتيجية المعدة لإصلاح منظومة التربية والتكوين.
وفي ظل هذه الأوضاع المأزمية إعلاميا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، والتحولات العميقة لأنماط العيش، والتطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة، والنمو الديموغرافي المتزايد، يجدر بنا رفع السؤالين العامين التاليين:
– هل تمتلك مختلف الأسر المغربية عموما، الفقيرة منها والمعوزة على الخصوص، مؤهلات التنشئة الاجتماعية السليمة والتربية القويمة لإعداد جيل قادر على مواجهة التقلبات الاقتصادية والاجتماعية؟
– وهل لديها من القدرات المادية والمعنوية ما يلزم لتوفير الحاجات الضرورية لجيل الغد لتحفيزه على التفاعل والتأقلم مع مختلف الوضعيات والاندماج في الحياة المدرسية والمهنية، والتسلح بالعلم والمعرفة لمواجهة متطلبات الحياة والانخراط في التنمية البشرية الشمولية؟
من خلال هذا وذاك، وانطلاقا من جهة أخرى، من وضعية تعليمية مأزومة، لا يسع المرء إلا أن يتساءل:
– ما مصير جيل الغد ومستقبلهم التربوي والاجتماعي، الذي قد تعلوه ضبابية سحب ملبدة، حيث لا توجد بوادر ومؤشرات مشجعة وملموسة تبشر بالقضاء على وضعيات الأمية والفقر والهشاشة والعطالة، لتحسين الأوضاع المادية للأسر، وبالتالي تحسين أوضاع أطفالهم التربوية والاجتماعية؟
– وأي مدرسة كفيلة بتوفير حاجات أطفال الغد، التربوية والمدرسية والتعليمية لتأهيلهم مهنيا وإدماجهم في الحياة العملية والاجتماعية كمواطنين صالحين لأنفسهم ومساهمين في بناء صرح هذا المجتمع؟
استنادا إلى الواقع المعيش والمراجع المتوفرة، نحاول، قدر الإمكان، مناولة الأسئلة أعلاه، بهدف استشراف مستقبل التعليم ببلادنا، مرتكزين على مجموعة من المحاور المعتمدة لإصلاح مرتقب لمنظومة التربية والتكوين، يمتد على مدى عقد ونصف من الزمن، وذلك من خلال صياغة، بشكل مركز، مجموعة من التنبؤات والتوقعات المشروطة اعتمادا على المعطيات المتوفرة والمعالم الأساسية لأوضاع المدرسة ومتغيراتها الحاضرة، تطلعا للغد، من أجل إلقاء نظرة استشرافية فاحصة على منظومة تربوية لجيل المستقبل وملائمة لخصوصياته ومستجيبة للحاجات المستقبلية للطفل المغربي، وملامسة خصائص مدرسة الغد، وخدماتها ومواصفاتها وأدوارها ووظائفها التربوية والمدرسية وطبيعة حاجات الأطفال التربوية والاجتماعية، ليكونوا قادرين على مسايرته التطور التكنولوجي، والتغيير المهني والاجتماعي والاقتصادي، وذلك من خلال مجموعة من المحاور الأساسية التي تنهض عليها منظومة التربية والتكوين ببلادنا، انطلاقا من استشراف مستقبل التعليم الأولي، وفي محاولة للإجابة على الأسئلة المحورية التالية:
– ما هو التعليم الأولي؟
– وما هو واقعه الحالي؟
– وأي السبل لإرساء تعليم أولي ناجع؟
– وأي مدرسة لجيل الغد؟
لا يختلف اثنان حول أهمية التعليم الأولي في الحياة التربوية والتعليمية للطفل، ذلك أنه يعتبر المرتكز الأساسي لدمج الأطفال في السلك التعليمي الابتدائي مسلحين بالمبادئ الأولية من أبجديات التعلم والاستئناس بمفردات ومصطلحات أولية لبناء المعرفة وألفة المناخ المدرسي والتعليمي، ومتمكنين من اكتساب معارف ومهارات تعبيرية ولغوية، تمكنهم من الانفتاح على محيطهم التربوي والتعليمي، والتشبع المبكر بمختلف القيم النبيلة السائدة، ليكبروا ويترعرعوا ضمن أحضانها وليصبحوا مواطنين صالحين مندمجين وفاعلين في المجتمع.
إلا أنه، وعلى صعيد المدى القريب، ومن أجل إعداد متعلمين مقبلين على اعتناق السنوات الأولى من سلك التعليم الابتدائي، والجهات المسئولة والفاعلون التربويون منشغلون بتنزيل المشروع الإصلاحي الجديد، يتم تسجيل، وعلى الصعيد الوطني، تفاوتات صارخة على مستوى إرساء منظومة التعليم الأولي.
إن المتأمل لتنزيل التدابير ذات الأولوية في شقها المتعلق بالتعليم الأولي، يكاد لا يلامس أي فرق بين الواقع المرتفب للتعليم الأولي وبين وضعه على امتداد سائر الإصلاحات التعليمية المتعاقبة منذ سنين خلت، ما ينذر بخدمات تربوية قد لا تستجيب لتطلعات الأمهات والآباء، وما قد يعمق تخوفاتهم على المصير التربوي والتعليمي لفلذات أكبادهم.
إن عدم تعميم خدمات التعليم الأولي يخل لا محالة بمبادئ المساواة وتكافؤ الفرص التعليمية والتحصيل الدراسي. حيث إنه لا وجه لمقارنة أطفال استفادوا من خدمات التعليم الأولي، وأطفال لم تطأ أقدامهم مؤسسات التعليم الأولي، حيث الفوارق شاسعة بين طفل متأقلم مع المناخ التربوي، يقرأ ويكتب ويحسب، وطفل لم يفارق حضن أمه وأسرته، لازال يخاف، ولم يكتشف بعد محيطه القريب منه.
إن الإخلال بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص التعليمية، بخصوص الاستفادة من التعليم الأولي، واضح وجلي، حيث إن خدمات التعليم الأولي غير معممة على جميع الأحياء بالأوساط الحضرية، خصوصا الهامشية منها، وغير معممة على جميع القرى والدواوير والمداشر بالأوساط القروية، ما ينذر بولوج تعليمي متعثر تنعكس آثاره السلبية على الطفل مدى حياته المدرسية، الأمر الذي يعمق حالة التوجس والخوف لدى الأمهات والآباء على مصير أبنائهم التعليمي.
فالمقرات المحتضنة للتعليم الأولي، في حال تواجدها، المعمول بها بشكل رسمي وغير رسمي، منذ زمان، تبدو غير موحدة البناية والفضاء والخدمات، وغير موحدة، من حيث تكوين المربيات والمربين الذين يشتغلون، في الغالب، دون تكوين مهني وفي وضعيات غير رسمية بحجرات تابعة لمؤسسات ابتدائية، أو برياض الأطفال أو بالمسيد أو كتاتيب قرآنية مقابل بعض المبالغ المالية. ونتيجة لهذه الوضعيات المتباينة، من حيث محتويات المقررات المعتمدة، والمقرات المستعملة التي يفتقد أغلبها لمعايير فصل دراسي، والموارد البشرية غير المتخصصة، فإن التعليم الأولي يشهد اختلالات عميقة، إن على الصعيد التربوي أو على الصعيد التعليمي والخدماتي، حيث أساليب التربية ومناهج التعليم ومضامين المقررات تختلف من مؤسسة إلى أخرى، فتتباين المفردات والمصطلحات وتعابير الخطاب المستعملة، إلى حد، أحيانا، عدم التقائها عند قواسم مشتركة تقارب الثقافات المحلية والجهوية والوطنية، وتوحيد السلوكات والتفاعلات والتعلمات، حتى يندمج الأطفال بالمدرسة الابتدائية بنفس الحمولة القيمية والثقافية والتربوية والتعليمية.
ولئن تم التنصيص على الاستئناس باللغات واللهجات المحلية، فإن ذلك، ونظرا لغياب التوحيد الاصطلاحي والمفرداتي لدى المربيات والمربين، يحدث اختلالات تواصلية وتربوية وتعليمية لدى الأطفال الذين يستدخلون ويستدمجون كلمات، غالبا ليست ذات ارتباط بلغة التدريس والتعليم بالمرحلة الموالية، فيألفونها، ويرسخ الاعتقاد لديهم أن تلك الكلمات أو البعض منها، تشكل اللغة التي سوف يتعلمون بها، فينصب اهتمامهم عليها ويصيرون يرددونها في البيت وفي كل مكان، ما يؤثر فيهم تربويا وسلوكا، ذلك أن بعض المفردات المحلية لا يتم استيعابها من طرف الأطفال وفهم مقاصدها التربوية بنفس الشكل، نظرا لاختلاف اللهجات على الصعيد الوطني كلمات ومفردات، إذ اللهجة أضحت محدودة ومنحصرة في المحيط الأسري وعلى مستوى الأسرة الممتدة كانت أو النووية، جراء الترحال والنزوح والهجرة وروابط الزواج على الصعيد الوطني، وعليه يمكن أن يشمل الفصل الواحد أطفالا متحدرين من مختلف المناطق والجهات، ومتشبعين أسريا بثقافة ومفردات محددة يفهمونها ويستعملونها وفق ما يروج داخل أسرهم، فيلقون صعوبات كبيرة في التأقلم والتكيف مع أوضاع جديدة، ما يحول دون اندماجهم بشكل سلس ضمن مجموعة الفصل، وما يؤثر على اندماجهم بمرحلة التعليم الابتدائي.
أما على صعيد التلقين والتعلم، فإن المقررات المعتمدة والطرائق المتبعة، تختلف من مرب إلى آخر لغياب توحيد المناهج وغياب التأطير والتتبع، ما يؤدي بالأطفال إلى التمرن على أنشطة واكتساب مهارات قرائية وكتابية تختلف على صعيد حي أو قرية أو مدشر أو منطقة معينة، ما يكرس عدم المساواة وتكافؤ الفرص: فالمربي، بروض الأطفال أو بالكتاب القرآني، يعتمد مقررا وينتهج طرائق، والفقيه بالمسيد يعتمد مقررا وينتهج طرائق، ما يؤخر تعلم الأطفال لاحقا ويؤثر في مسايرتهم بمرحلة التعليم الابتدائي، وذلك من حيث التعبير والكتابة والتواصل.
وفي ظل عجز الأسر المغربية، عموما، عن توفير أغلب الحاجات المادية والمعنوية لأطفالهم، كما أسلفنا في موضوع سابق، وفي ظل تفشي ظواهر اجتماعية مختلفة، متجلية في الأمية والأمراض والعنف، وفي ظل النقص الحاد في توفير خدمات التعليم الأولي اللازمة للأطفال، يرى الأمهات والآباء ضبابية تخيم على المستقبل التربوي والتعليمي لأبنائهم، عبر مختلف الأسلاك التعليمية انطلاقا من طور التعليم الأولي إلى التعليم العالي والتأهيل المهني، مرورا بسلكي التعليم الابتدائي والثانوي.
وعليه يبدي الأمهات والآباء قلقا وحسرة في إطار رؤية مستقبلية لأبنائهم، تربويا ومدرسيا، وينظرون بكثير من الشكوك، لواقع التعليم الأولي، على الخصوص، متسائلين:
· هل يتم فعلا تنفيذ قانون إلزامية التعليم الأولي لحث جميع الأسر المغربية على تسجيل أبنائها بمؤسسات التعليم الأولي عند بلوغهم أربعة سنوات من العمر، والاهتمام بتربيتهم وتعليمهم لإعدادهم لولوج المدرسة الابتدائية مسلحين بمبادئ تربوية وتعليمية تمكنهم من تحصيل دراسي مؤهل للأطوار التعليمية الموالية؟
· وهل يتم بناء مؤسسات تعليمية خاصة بالتعليم الأولي مستقلة وموحدة ومجهزة، تتوفر فيها مختلف المواصفات والمتطلبات التربوية، توفر ظروف التربية والتسلية واللعب وتحتضن جميع الأطفال دون تمييز ولا تمايز بين الأسوياء منهم وذي الحاجات الجسدية والنفسية حتى لا يشعروا بأي مركب نقص يشكل سبب إقصائهم من الأسلاك التربوية والتعليمية؟
· هل يتم تعميم خدمات التعليم الأولي على صعيد الوسطين الحضري والقروي، على قدم من الإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص، في حجرات تعليمية بمعايير صحية ومحفزة للأطفال تضمن نموهم الجسمي والعقلي بشكل عاد، وتوفر راحتهم النفسية، وتحبب لهم التعلم وارتياد المدرسة بشغف وقابلية؟
· وهل يتم وضع برامج تربوية ومقررات تعليمية جيدة، موحدة وجذابة، تمكن الأطفال من التأقلم مع المناخ التربوي، وتتيح انفتاحهم الفكري والمعرفي، وتوقظ فيهم الحافزية والقابلية للمسايرة والتطور؟
· وهل يتم تكوين أطر مربية كفئة، متمكنة، معرفيا وتربويا، من تكوين أكاديمي ومهني يؤهلها للاضطلاع بمهامها على أحسن وجه، وقادرة على إعداد الأطفال نفسيا وتربويا للالتحاق بالتعليم الابتدائي ومسايرة الدراسة بنجاح ودون تعثر؟
· ومتى يتم إعداد أطر مشرفة على سير خدمات التعليم الأولي، تصاحب المربين وتواكب أعمالهم وتتابع أنشطتهم وتقوم مردوديتهم تؤطرهم وتمد لهم يد المساعدة، لتجاوز مختلف الصعوبات التي تلاقيهم من أجل ضمان جودة هذه الخدمات وتطويرها والارتقاء بها؟
· وهل يتم ردم الهوة السحيقة بين خدمات التعليم الأولي الخصوصي وخدمات التعليم الأولي العمومي، التي تشكل عنصر أحقاد في المجتمع، تتنامى في نفسية الأطفال منذ الصغر، حيث أطفال الأسر المعوزة يرون بازدراء وتحقير أبناء الطبقة الميسورة، إذ يشعرون وهم ينمون بدونية ونقص مادي ومعنوي، تربوي وتعليمي، تأهيل مهني واندماج في الحياة العملية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟
(*): مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية.
Aucun commentaire