عن الجرح الفلسطيني
تستمر الانتفاضة الفلسطينية ضد جنود الاحتلال الاسرائيلي في غالبية نقاط التماس في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وينزف الدم الفلسطيني أمام الصمت الرهيب للمجتمع الدولي والخذلان الصارخ للأنظمة العربية التي آثرت التفرج على ما يجري من أحداث وتطورات.
اندلعت هذه الانتفاضة المجيدة بعدما تأكد أن العرب لن يقدموا أو يؤخروا في قضية مصيرية بالنسبة للفلسطينيين، وبعد أن اتضح أنهم لن يحرّروا الأرض من الدنس الصهيوني، مادامت أوطانهم غارقة في بحر آسن من الفساد والاستبداد، فالصراع العربي الإسرائيلي أصبح متجاوزاً، ولا يمكن تحرير الأرض إلا بسواعد فلسطينية محضة.
الــــيوم، ازداد المشهد الفلسطيني قتامة، خصوصاً في ظل حالة التشرذم والانقسام التي تعرفها أغلب الدول العربية، لعل أبرزها الأزمات السورية واليمنية والعراقية، ما جعل الشارع العربي يتأخر في الخروج للاحتجاج، وإعلان تضامنه مع شهداء المقاومة الفلسطينية، والضغط على نخبه الحاكمة التي أخلفت، كعادتها، الموعد مع التاريخ.
لــــن تنسى الشعوب العربية تواطؤ أنظمة مستبدة مع العصابات الصهيونية التي تستمر في ارتكاب جرائم الحرق والقتل والتشريد، فالانتكاسة التي تعيشها القضية الفلسطينية لم تكن نتيجة تقصير الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه، وإنما كان للأطراف العربية المتدخلة في الشأن الفلسطيني دور رئيسي في استفحالها.
مارست أنظمة عربية، ومعها المجتمع الدولي، جميع أشكال الانتظارية والتيئيس القاتل على الشعب الفلسطيني الصامد، وعلى قضيته العادلة والمشروعة التي أصبحت عبئاً ثقيلاً عليه، يصعب حلحلته، خصوصاً في ظل انقسامات الهوية وانقسامات الوعي في الواقع العربي المتشظي، وفي ظل نهج تكريس سياسة الواقعية التبريرية لحسم الصراع الذي تجاوز نصف قرن.
تحتاج القضية الفلسطينية، اليوم، إلى رؤية استشرافية مستقبلية، تقطع مع أنصاف الحلول التي تقدم حالياً، سواء من المفاوض الفلسطيني/العربي، أو من رعاة السلام الدوليين. وفي هذا الإطار، تبقى الرؤية التي قدمها المفكر الراحل محمد عابد الجابري، المرتكزة على وجود فضاءات للتداخل الإسرائيلي/الفلسطيني، وعلى وجود واقع إثني، ديني، أصولي وعلماني في كل طرف، قابلة للتصريف والتطوير، ووضع حد لهذا الجسم الغريب الذي أقحم قسراً في الجسد الفلسطيني.
في هذا الصدد، يقول صاحب « بنية العقل العربي »: »يبدو لي أن الحل العقلاني الوحيد الممكن، ولو أنه حالم، هو قيام دولة اتحادية واحدة في فلسطين كلها، على غرار الاتحاد السويسري، قوامها مجموعة من الكانتونات، بعضها عربي وبعضها إسرائيلي، بعضها علماني وبعضها ديني، وبعضها بين بين. دولة تجد فيها جميع الطوائف والاثنيات مكاناً خاصاً بها في شبه استقلال، في إطار من التبعية للدولة الفيدرالية الديموقراطية. هذا هو الشكل العقلاني الممكن لدولةٍ تكون عاصمتها الفيدرالية هي القدس الموحدة جغرافياً، والمتعددة، لا المنقسمة، سياسياً وثقافياً ودينياً وإثنيا. إنه حل، يبدو لي، الآن على الأقل، الحل الوحيد الممكن إزاء ما تعانيه القضية الفلسطينية من وضعية أشبه بـ »المأزق »، وما تعيشه الدولة الصهيونية الآن من وضعية « أزمة وجود ». يعيش الفلسطينيون، الآن، « يقين الدولة » حلاً نهائياً، أما إسرائيل فهي تدرك الآن جيداً أن مثل هذا الحل النهائي يقتضي إقبار الفكرة الصهيونية إلى الأبد ».
في انتظار تحقيق الدولة الفلسطينية المنشودة، يبقى الكفاح بشتى الوسائل، وتوسيع مجال التضامن مع الفلسطينيين السبيل الوحيد لتغيير قواعد اللعب، فالانتفاضات لا يحركها اليأس والإحباط، وإنما تحركها الرغبة في الانتصار على الحركة الصهيونية ومشروعها الاستعماري .
Aucun commentaire