الحركة الإسلامية المغربية: من الإديولوجية الإخوانية إلى الانفتاح والاندماج 2|4
أحمد الجبلي
2- جذور الفكر الإسلامي الذي يؤطر الحركة الإسلامية بالمغرب
تتسم الحركة الإسلامية المغربية، بكل أطيافها، بإجماعها على نبذ العنف، وعدم اتخاذه وسيلة تغيير أو رفض و احتجاج. وهي في هذا الموقف بعكس العديد من الحركات المتطرفة التي تتأسس ثقافتها على نظريات تجعل من العنف عقيدة لا بديل عنها، مع العلم أن الثقافة كما يعرفها مالك بن نبي هي نظرية في الفكر ونظرية في السلوك، أي أن طبيعة تبني واعتماد ثقافة معينة هي عملية حاسمة في الممارسة والفعل في الواقع وفق ما تمليه هذه الثقافة.
إذن، ما طبيعة الثقافة الإسلامية التي تتبناها الحركة الإسلامية في المغرب، والتي على إثرها يمكن قياس سلوكاتها وأفعالها في الواقع؟ وما هي الجذور الفكرية لهذه الثقافة؟ وأي فهم للنصوص كان كفيلا بأن يجعل الحركة الإسلامية تؤمن بالديموقراطية كخيار استراتيجي ولا تحرمها كما فعلت تيارات أخرى، وما الذي جعلها لا ترفع شعار « الإسلام هو الحل » والحاكمية لله؟
ولنحسم في البداية، أنه ليس عيبا إذا كانت لك ثقافة معينة مرفوضة دينيا واجتماعيا، إذا يبين لك الحق من الباطل والصواب من الخطأ، أن تتراجع عنها وتتبنى لك ثقافة أكثر اتزانا ووسطية وتسامحا وانفتاحا. ولعل هذا ما وقع للحركة الإسلامية في المغرب إبان عملية اغتيال الزعيم اليساري عمر بن جلون. وعملية الاغتيال هذه قد أفزعت شباب الحركة الإسلامية وجعلتهم في يقظة بعد غفلة، وانتباه بعد سهو، فانطلقوا نحو عملية البحث عن الذات، والتماس طريق ينسجم مع فهمهم للإسلام النقي الذي تعلموه في جلساتهم التربوية، إسلام من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا.
لقد تزامنت هذه العملية عملية شق الطريق السوي الذي ينبع من صميم الفهم الصحيح للإسلام، مع إندلاع موجة الدعوة إلى النقد الذاتي التي أطلقها المفكر الإسلامي خالص جلبي سنة 1983 من خلال كتابه الشهير « الحركة الإسلامية وضرورة النقد الذاتي » تلاه كتاب » الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية أوراق في النقد الذاتي » وهو كتاب ضخم ألفه أزيد من عشرة مفكرين إسلاميين وازنين على رأسهم المفكر الإسلامي الكبير منير شفيق والدكتور محمد عمارة ،والدكتور توفيق الشاوي وحسن الترابي وغيرهم، تحت إشراف الدكتور عبد الله فهد النفيسي الذي افتتح الكتاب بإهداء يلخص كل متنه بقوله: » إن الحركة التي لا تريد أن تراجع أو تدرك أخطاء ماضيها، من الممكن أن يتحول حاضرها إلى كومة من الأخطاء ومستقبلها إلى كارثة » هذه العمليةّ، وإن اعترض عليها البعض تحت مبرر أن النقد الذاتي هو عملية لكشف الأوراق للأعداء، إلا أن الحركة الإسلامية في المغرب كانت شجاعة بما يكفي، ليس كلها لكن في أغلبها، لتنظر في حالها وحال أبنائها وحال تصوراتها وثقافتها. فكان من ثمار هذا النقد تغيير حركة إسلامية لاسمها كاملا لما كان يحمله من دلالة لغوية إقصائية وادعائية بامتلاك الحقيقة، رغم أن هذه الحركة لم تكن تدعي شيئا من هذا، إلا أن عملية المراجعة والبحث عما هو أفضل وأصوب قد غلب على فكرها ونهجها. وهنا لابد من الإشارة إلى أن جميع التيارات الإسلامية التي اعتمدت النقد الذاتي وتصحيح المسار وقامت بمراجعات في رؤاها وتصوراتها، هي الآن تحتل مكانة مرموقة لدى الناس واتسعت شعبيتها، واكتسبت سمعة جيدة في الأوساط العالمية وليست المحلية فحسب وتعتبر أنموذج التفاعل مع الواقع والانفتاح، وأما الحركات التي نأت عن النقد والمراجعات و بعضها لم يقو حتى على تغيير اسم كتاب، يعد مرجعها الأساس، يحمل أقبح معاني الإقصاء وتبني الحقيقة المطلقة، فهي لازالت تنزوي في زوايا الانغلاق والعمل بفكر أحادي إقصائي ولازالت تنظر إلى الآخرين نظرة دونية نظرا للغرور الذي يتملكها ويملأ عليها وجدانها.
3- قراءة جديدة تجديدية للنصوص وفهم حداثي للإسلام.
لقد بدأت الحركة الإسلامية في المغرب تصنع لها أدبيات وتنشر حوارات واقتحمت الإعلام فصار فكرها على مرأى ومسمع من العالم، وتدافعت وساهمت في صناعة ثقافة جادة بانية وصار لها فهم للواقع المغربي والظروف العربية والعالمية. وشرعت في تحليل فهمها للإسلام ونشره هنا وهناك، وأفاضت في شرح مفهومها للثقافة والمجتمع والمعرفة المطلوبة.
وبإيعاز غير مباشر من عملية الاطلاع على أدبيات مفكرين إسلاميين وازنين ومعتدلين ومنفتحين، ومن خلال التعامل اليومي و التعاطي مع النصوص القرآنية والحديثية ومحاولة فهمها في تفاعل مع الواقع، بدأت الحركة الإسلامية المغربية تبدع في التجديد في ظل فقه الواقع وفقه التنزيل، وإدراك دائرة الاجتهاد عند غياب النص، وتحديد مساحة الثابت والمتحول، واستخلاص منطقة العفو التي لا نص فيها ولا أثر، وهي المساحة التي تجعل الإسلام خالدا متفاعلا ديناميكيا ومتحركا لا جامدا ولا راكدا. فانطلقت سلسلة من الإبداعات في التأليف في هذا المجال ومنحت صبغة العالمية لما حوته من إبداع في فهم الإسلام وتفعيل نصوصه. فأصدر الدكتور أحمد الريسوني تحفته العالمية والتي كانت عبارة عن رسالة دكتوراه وهي » نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها المعاصرة في العلوم الإسلامية » عالج فيها قضايا حيوية تتعلق بالفهم العميق لقضايا الإسلام وتفاعله مع الواقع، بمنهج علمي واقعي وبتحليل منطقي رفيع بعيدا كل البعد عن منطق التحجر والنظرة الضيقة التي لا تتجاوز أرنبة الأنف. وسنعطي أمثلة على ذلك فيما هو آت.
وأصدر الدكتور أحمد العماري كتابه النفيس » معالم في منهج التغيير » ضمنه رؤية جديدة معاصرة في ظل استقراء النصوص القرآنية في تفاعلها مع الواقع وديناميتها المتميزة في التحرك في الزمان والمكان.
وأصدر الدكتور سعد الدين العثماني كتابه » تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة وسماتها عند الأصوليين » وهو كتاب صغير في حجمه كبير في فوائده ورؤيته وقيمته، يقوم فيه باستقصاء معاني تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وتحديد الفوارق الموجودة بين كل تصرف وعمل قام به عليه السلام والسلام، وما هو العمل النبوي الذي يترتب عنه الاقتداء والاتباع، وهو يأتي كما يقول الدكتور سعد الدين إجابة عن سؤال حول مدى انسجام وجود الإسلام ومجتمع الإسلام مع دولة مدنية تنبني فيها الشرعية على إرادة الشعب، وتصدر فيها القوانين من قبل مؤسسات مخول لها ذلك بالانتخاب، وتتخذ قراراتها وفق المصلحة، مصلحة المجتمع، وبأقصى درجات الموضوعية الممكنة. ولا أعلم أحدا قد كتب في هكذا موضوع بهذا المنهج الوصفي والتحليلي منذ الإمام القرافي الذي كان أحسن من ألف في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم المختلفة في كتابه » الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام و تصرفات القاضي و الإمام »
وفضل الدكتور مصطفى الخلفي أن تكون أطروحته لنيل شهادة الدراسات العليا المعمقة بعنوان: » المشروع السياسي للحركة الإسلامية بالمغرب » وفق فيها إلى حد كبير بتأصيل العديد من القضايا السياسية المعاصرة التي لازالت العديد من الحركات الإسلامية في العالم تتخذ منها موقفا معاديا على اعتبار أنها غير واردة في الشرع الحنيف، أو أنها لم تكن من الأفعال التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن النصوص القرآنية والحديثية واضحة فيها ، في زعمهم، مما يجعلها من المحرمات أو من المنهي عنه شرعا.
هذه نماذج، فقط، من الكتب التي ساهمت في الوعي الحركي الإسلامي المعاصر والتفاعل مع الواقع والمجتمع، وإلا فهناك كتب أخرى ككتاب العمل الإسلامي والاختيار الحضاري لمحمد يتيم، فضلا عن العديد من المقالات والأدبيات التي كانت تنشر في جريدة الراية والإصلاح والتجديد والفرقان وغيرها. وهي كتب ومقالات نهجت نفس النهج وركزت على كيفية استدعاء الإسلام ليكون حاضرا بقوة في كل ما يقع في هذا العالم، وأجابت عن أكثر إشكالات الساحة كالمشاركة السياسية والعمل داخل المؤسسات ،الديموقراطية أم الشورى، حكم الأغلبية على الأقلية، التحالفات الحزبية مع أحزاب ذات مرجعية مغايرة، قضية المرأة، الانتخابات، الغناء ، الموسيقى، وغيرها من القضايا.
ومن أخطر القضايا الإسلامية التي أرقت الحركة الإسلامية في العالم ولا زالت،هي إشكالية مفهوم اكتمال الدين، أي إذا كان الله تعالى قد قال في الآية المحكمة: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) بمعنى أن الدين بما أنه كامل فهل لا يحتاج إلى اجتهاد أو إضافة أحكام جديدة أو يحتاج إلى تفاعلات مع المستجدات فتقضى للناس أقضية بقدر ما أحدثوا. ولكن الذي يهمنا هنا هو كيف فهمت الحركة الإسلامية المغربية اكتمال الدين وهل فهمته كما فهمته الحركة السلفية التي اعتبرت اكتمال الدين يستوجب العمل فقط بما ورد في كلام الله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما عدا ذلك فهو يعتبر بدعة محرمة مصيرها النار لأنها ليست من الدين الكامل الذي لا يحتاج لزيادة ولا إلى اجتهاد فحرمت العديد مما أحل الله وضيقوا على الناس ما وسعه الله، فكانوا ضل الله في الأرض أو كهنوتية جديدة ومحاكم تفتيش معاصرة.
يتبع
Aucun commentaire