ماسح الأحذية
قصة مستوحاة من أغنية للفنان محمد بحر « سعيد ماسح الاحذية »
يقول مطلعها :
يدور في الشوارع….يدور في الشوارع….
ويقتات من الطريق
ماسح الأحذية…ماسح الأحذية…
وهم أصحاب المعامل…. يًشيّدون المعامل
ويُصبحون وزراء…وزراء…
وتبقى أنت تمسح…وتمسح…
حتى يمسحوك…حتى يمسحوك…
**********
كان اسمه سعيدا ، رغم أنه لم يعرف غير حياة البؤس والشقاء. تجرع مرارة الفقر منذ نعومة أظافره. مات أبوه ، لم يترك لهم سوى كوخا قصديريا في حي زيدور الشعبي، أو العشوائي كما يحلو لحكوماتنا ومجالسنا المتعاقبة أن تصنفه، لما يستعصي عليها حل مشاكله المتناسلة…
يخرج سعيد صباحا حاملا صندوقا خشبيا ، مُلمِّعا ، « شيتة » وخرقة بالية. هذا كل ما يحتاج له في عمله. يجوب الشوارع شارعا شارعا. يمر بجميع المقاهي ، مقهى مقهى عبر كل الازقة … يبحث عن أحذية خشنة مُغبرة يسترد لها نضارتها وبريقها.
غادر مقاعد الدراسة بعد أن لم تتمكن أمه العجوز المسكينة توفير مصاريف الدراسة والأكل .فاضطرته هذه الظروف إلى الاشتغال ليعيل أسرته.وجهه الطفولي الحزبن لفتحه شمس أغسطس من كثرة التجوال. عيناه غأئرتان بهما مسحة حزن دفين .لكنه لم ييأس. لا زال يحتفظ ببصيص أمل . ينتظر فرجا قد يأتي أو لا يأتي. ينتظر غودو… مثل أبطال مسرحية صامويل بيكيت .
أمله الوحيد ، هو أن يعود يوما ما إلى مقاعد الدراسة مثل أقرانه .خصوصا أن لديه رغبة كبيرة
و متأججة في التعلم.
كنت جالسا في إحدى المقاهي أقرأ جريدة لما رمقته يلمع حذاء رجل كان جالسا مع ندمائه .
كان سعيد يقوم بعمله بإتفان وبحركات ميكانيكية خفيفة ورشيقة عله ينال رضا الزبون .بينما هذا الأخير يداعب سيجارته الشقراء بلطف ، كان غثا سمبنا » تكرش حتى عاد بلا رقبة ».كما يقول أحد الشعراء العرب. لا يبالي بمن حوله ، ثرثار يحترف مجانية الكلام ، يتحدث بصوت جهوري ، مهرج يعرف كيف يحرك مشاعر الناس ويعزف على وترهم الحساس . شعبوي.
لم يلتفت الرجل إلى سعيد إلا حين نبهه هذا الأخير بأن عليه أن يستيدل وضع الرِّجل الأخرى على الصندوق الخشبي بعدما فرغ من تلميع الفردة الأولى من الحذاء.ثبت رجله على الصندوق أشعل سيجارته وعاد إلى حديثه .رغم تفاهته كان يسلي كل من حوله . يدرك جيدا
كيف يخاطب عواطفهم .ألم أقل لكم إنه شعبوي.
لما فرغ الطفل من عمله ، انتصب واقفا منتظرا ما سيجود به الزبون عليه.أخرج الاخير من جيبه ،بعض الدراهم،لا تتعدى ثلاثة، تيقنت من ذلك حين رأيته يعُدها،ثم رمى بها فوق الطاولة محدثة رنينا.إلتقطها الطفل دون أن ينبس ببنت شفة.تأبط صندوقه ومضى.
مر بمحاذاتي ،محدثا صوتا بالدق على الصندوق.
– هل تلمع؟ مشيرا إلى حذائي . سأجعله جديدا كأنك اشتريته الآن !
اعتذرت بلطف ثم طلبت منه الجلوس. أمام إلحاحي لم يجدا بدا من الإذعان للأمر.
صببت له كأس شاي. سألته عن الأحوال. حدثني عن كساد العمل هذه الأيام.فالناس لم تعد بحاجة لمن يلمع لها أحذيتها كما في السابق . إنهم يقومون بذلك بأنفسهم بفضل المنتجات الجديدة… تراوده كثيرا فكرة استبدال هذه الحرفة التي لم تعد تغني من فقر، بأخرى لا تُمتهن فيها كرامته وتوفر له عيشا نسبيا كريما.ما زال مصرا على حقه في التعليم كما يحلم أن يشتري لأخته لعبة في العيد…
أفرغ سعيد في جوفه كأس الشاي على دفعتين، ثم استأذن وانصرف.
قلت في نفسي أَإلى هذا الحد البسيط وصل سقف أحلام طفولتنا ؟ وطن لايستطبع صون كرامة أطفاله وطن هذا أم ماذا ؟
مرت عدة أسابيع لم أر فيها سعيدا. سألت عنه احد معارفه فأخبرني بأن المسكين دهسته سيارة »مقاتلة » طائشة .مسحته من هذا الوجود.لم تبكه سوى أم طيبة طاعنة في السن اسمها تورية وأخته الصغيرة أمل.بكياه في صمت بألم وحرقة.
Aucun commentaire