أحواض اللّفْت : قصة مستوحاة من الواقع
» نولد، نشقى بطفولتنا…، ثم لما يتقدم بنا العمر نساعد آباءنا في غرس الأشجار،ويأتي أناس بعد ذلك ليقطعوها…، » ( 1)
أبي كان فلاحا يحرث أرضا ليس يملكها بوادي كيس. كانت أرض أجدادي.
بفأسه كان يشق الأرض شقا. ما كان يملكه هو قوة عمله. كان يبيعها بثمن بخس لا يكفي لسد رمق أسرة تتكون من عدة أفراد .
رغم أن اسمه كان عبد الرزاق فإن الرزق لم يجد إلبنا سبيلا.
لم نكن نحن الذكور نستفيد من العطلة الصيفية المدرسية كاملة كباقي أولاد الدرب. أنذاك أدركت أنه في وطني لا يولد جميع الناس أحرارا متساوين…!
توقظنا الوالدة في الصباح الباكر بعد أن تكون قد جهزت لأبي الفطور فجرا. كانت تنتشلنا واحدا واحدا من نوم عميق ولذيذ ،نحاول أن نمدده ولو قليلا.
نمطتي ثلاثتنا بَغْلَة شَهْبَاءَ رابعنا أبونا. الأب في المقدمة، يحمل في إحدى يديه منخاسأ يستحث به الدابة على الإسراع في السير و بالأخرى يمسك العنان. خلفه يركب اخي الأكبر، وأنا واخي الصغير في الخُرج (والخُرْج لمن لا بعرفه كان يُصنع من الحَلفاء يوضع بعد البردعة فوق ظهر البغال أوالحميرلتُحْمل فيه البضائع أو الغلة أو غير ها…)
كنت أكره وضعي داخل خُرج. أحس كأني جُرِّدت من إنسانيتي. أصبحت شيئا،
ما أقسى التشييء! (Chosification)
كنت أطأطِئ الرأس حين نمر أمام مجموعة من الناس حتى لا أكون موضوع سخرية.
توخزني الحلفاء المصنوع منها الخرج.أتألم في صمت. لا مجال للشكوى في حضرة أبي يرحمه الله.
لو خُيِّرْت بين الركوب والترجل لاخترت المشي راجلا طول الطريق. إنه أهون إليّ من الركوب في مكان مخصص للمتاع. لكني كنت مجبرا لا مخيرا.
****
أشد ماكنت أمْقته هو تنقية أحواض اللّفت. يبدأ العمل صباحا تحت شمس حزيران الحارقة .
نجلس القرفصاء، وبوسائل بدائية: سكاكين مُتخلى عنها لم تعد صالحة في المطبخ، قطع من الزنگ صدئة ، غطاءعلب الساردين. بهذه الوسائل كنا نجْتّث النباتات الفطرية التي تنمو إلى جانب اللفت. تستمر هذه العملية المملة والمضنية حتى الظهر.
ساعة واحدة فقط كانت كافية في نظر أبي – ورأي ابي لا يناقش بل يُطاع – ساعة وحيدة ويتيمة للاستراحة والغذاء (الغذاء تجاوزا( .
نُخرِج كِسرة من الخُبز كانت تلُفُّها أمي وسط رداء من الثوب وتضعها داخل غلاف من الجلد حتى تحافظ على طراوتها ولا تيبس. فالخبز عند أمي له مكانة خاصة قد تصل حد التقديس. كانت تسميه « النَّعمه ». تُنحّيه جانبا إذا ما صادفته مرميا في الطريق أو في المنزل. وقد تُقبله أحيانا.
ما يسري على الخبز لا ينطبق على باقي النعم، فرغم أهميتها فإنها لاتسمو إلى منزلة الخبز. فمكانته فوق كل اعتبار. يعلو ولا يُعلى عليه.
فما زالت أمي يرحمها الله ، حتى ونحن كبارا ، توصينا بالخبزة خيرأ (تقصد الوظيفة باعتبارها مصدرا للعيش.) كانت تردد على مسامعنا » اتْهلاّوْ ف الخبيزة ديالكم. »
كنا نحشو الخبز « المقدس » بالتين نقطفه من شجرة نستظل تحتها.وعلى جدعها ، حين يغفو أبي هنيهة، ننقش حروفا ورموزا للذكرى أو للتنفيس. تؤرخ لمرحلة شقية من طفولتنا.
كم تكون فرحتنا شديدة حين يدعونا أحد أقاربنا لشرب الشاي المنعنع.كان لَفقير أحمد خالنا ،رحمه الله، يُعِده بعناية وإتقان كبيرين كغيره من الفقرا (الفقرا جمع فقير لاعلاقة لها هنا بالانتماء الطبقي وإنما تُحيل لطائفة او جماعة دينية (…
بعد الزوال، يستمر العمل حتى العصر.كان صوت المؤذن القادم من الجزائر يُسعدني كثيرا وكأني به يقول حيّ على الخلاص، حيّ على الخلاص.
في العودةأمشي بين أشجار الرمان وحيدا حتى أصل الطريق . في الطريق ألتقط أعقاب السجائر من يقايا ماكان يدخنه الجنود أنفث فيها خِفية همومي كما تنفث فِيَّ السموم، وألعن في نفسي اللَّفت حُلوها ومُرها ولاتسلم من لعناتي حتى لفت سيد المختار.
****
(1) الأشجار واغتيال مرزوق/ عبدالرحمن منيف.
تنوبــــــــــــــــــه: أى تشابه مع أشخاص أو أحداث فعلية ليس محض صدفة.
Aucun commentaire