عيساوة / قصة قصيرة
منذ الباكرة يقفون بصمود قرب باب السوق الأسبوعي دونما كلل، نرمقهم بنظرات خاطفة حتى لا نزعجهم بتطلعاتنا الطفولية المحرجة . يمتد تحت أقدامهم حصير من الحلفاء وفوقه تجمعت العديد من القطع النقدية ، ويتوسطه صندوق خشبي صغير تغير لونه إلى الأسود بفعل تراكم الأوساخ، محكم الإغلاق، وبجنباته ثقوب تمكن ساكنه المرعب من التنفس، ومنها وبين الفينة والأخرى يمتد لسان الأفعى لتتحسس محيطها المزعج . تعلوا أصواتهم بالدعاء إلى الكرماء من الناس الذين يجودون عليهم بالمال وغيره، أسنانهم نخرها السوس بفعل الإدمان على تدخين الكيف وشرب الكحول الرديء . يتطاير الرذاذ من أفواههم وهم يدعون أهل النيات الصادقة للإقتراب . يدنو منهم عجوز بدوي رث الثياب ويسلم لكبيرهم قالبا من السكر ، ويناشده بإسم كل الأولياء الذين يذكرهم أن يرفعوا أكفهم بالدعاء لشفاء مريضة بمنزله، فيطلب منه الكبير أن يجلب له كتف خروف ، فينزعج البدوي ويتراجع ساخطا مزمجرا بكل أنواع السباب يقتحم حلقتهم محاولا استرجاع صدقته فيطوقه العيساوي في عناق ودي ويزمجر بجمل متسارعة بالدعاء للمريضة، فيردد أتباعه بقوة : آمين ، يتراجع البدوي فيمدهم ببضعة دراهم ثم ينصرف راضيا
يتنقلون على مدار الستة أيام في الأسبوع بين أسواق الناحية ، هم أربعة ، كبيرهم تجاوز الستين وصغيرهم في عقده الرابع ، وعدتهم بضعة دفوف رنانة وطبل ومزمار وصندوق به أفعى وحصير صغير يستقبلون عليه مريديهم . ويومهم السابع هو الجمعة الذي يقضونه بإحدى المقابر ، حيث تكثر الصدقات وتتعدد قصع الكسكس مع زيارات النسوة لجبانات من رحل بعد أن يعرجن على ضريح الولي ليقدمن له أصابع الشمع حتى ينير الله قبورهن بزعم القائمين على شؤون المكان
كنا ننتظر بشغف خروجنا من حصة الدراسة من أصباح أيام الثلاثاء حيث ينعقد السوق الكبير لنهرول إليهم حتى لا نفوت الموعد الأسبوعي . وكانوا إن رأوا نفور الناس منهم يدقون الدفوف بقوة على إيقاع الحضرة فيتزاحم المارة من حولهم وقد استلبهم هذا الإيقاع الصوفي، ثم يبدأ كبيرهم بسرد حكاية وما أن يصل إلى لحظة مشوقة حتى يتوقف ليجمع المال من المتحلقين حوله كل حسب أريحيته. وغالبا ما ينفض هذا الجمع مع الغروب . وفي بعض المناسبات الدينية نراهم يرفعون مجموعة أعلام متعددة الألوان وقد طرز على بعضعها آيات قرآنية علقت على عمود خشبي طويل يجتهد يافعهم في حمله، يجرون وراءهم حمارا قويا يضعون عليه أثقالهم من كسبهم اليومي في تطوافهم بين دروب المدينة
وفي الليالي الطويلة احتفاء بذكرى المولد النبوي أو مواسم الأولياء يحيون سهرات الحضرة، حيث يختلط الرجال والنساء ، الذين يعتقدون أن بهم مس من الجن أو السحر، في رقصات الجدبة حيث تتشعث الشعور وتشق الملابس وتلطخ الوجوه بدماء القرابين . ويكون لهم حضور مختلف في حفلات الختان حيث يحمل الأطفال على صهوة الجياد في مواكب كبيرة يتقدمها الآباء ويشارك فيها الأهل والجيران، ليطوفوا الأحياء والدروب بزهو كبير ثم يعرجون على ضريح من أضرحة أولياء الله ليتبركوا من ثراه ، وهنا يختلف الإيقاع الموسيقي الذي يعزفه العيساويون إذ يدع عنه عباءته الصوفية الرتيبة ليصير ذي طابع فلكلوري راقص و سريع تهتز له الأكتاف والأرداف .
ياسين لمقدم
Aucun commentaire