أي مسار سلكته إيران لتجعل الغرب الآن يخطب ودها ، وتفرض عليه سياسة الأمر الواقع في ملفها النووي؟
في الوقت الذي تعيش قيه مجموعة من الدول العربية أزمات مستعصية ومركبة نتيجة الربيع العربي وإجهاض ثوراتها ، وما يعرفه العراق من مخاض عسير ، يخطب الغرب وعلى رأسه أمريكا ود إيران اليوم ، لأنها أصبحت القوة الإقليمية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وربما في العالم الإسلامي برمته ، و أصبحت مهابة الجانب ، بحيث طورت وتطور ترسانتها العسكرية باستمرار ، و تملك صواريخ قادرة على تدمير قواعد أمريكا في الشرق الأوسط ، منها على سبيل المثال ، صواريخ شهاب 3 التي تحمل ثلاثة رؤوس حربية ، وهي قادرة على تضليل الدفاعات الأرضية والصواريخ المضادة ، ويصل مداها إلى 1700 كيلومتر ، ويمكنها حمل رؤوس نووية و الوصول إلى إسرائيل ، وصواريخ طوربيد المخصصة للأهداف البحرية ، وفجر 3 الذي يصل مداه إلى 2000 كيلومتر .
ولا أريد أن أتابع وصف أسلحتها المتطورة ، بل أشير أيضا إلى أنها هددت أمريكا إن هي أقدمت على توجيه ضربات لها بسبب ملفها النووي… ، وأعلنت أنها تملك 10 ملايين مقاتل مستعدين للقتال حتى الموت من أجل قضاياهم ومؤمنين كل الإيمان بها ، تحركهم وقتما شاءت ، هذا بالإضافة إلى أن عدد سكانها يمثل ثلاثة أضعاف سكان العراق ويبلغ 70 مليون نسمة ، ثلثيه تقل أعمارهم عن ثلاثين سنه ، أي أن إيران هي بلد الشباب ، وهذا في حد ذاته قوة لا يستهان بها ، ففي عز المشكل النووي ، والحصار المفروض علي إيران أفرجت أمريكا على جزء من أرصدتها المجمدة في البنوك الأمريكية (1) لتقترب منها أكثر، وحتى في عز الحظر على إيران و في عهد بيل كلينتون سنة 1990 بقيت الولايات المتحدة الدولة الرابعة من حيث سجل التعامل التجاري السري ، ومن حيث كميات النفط المصدرة إلى أمريكا بواسطة العملاء ، كما وافقت حكومته على إرسال أسلحة إيرانية إلى البوسنة ،و تحاول فرنسا إعطاء نفس جديد لعلاقتها معها ، وتعتزم عدة شركات فرنسية زيارة إيران للاستثمار فيها . ودول أخرى مثل بريطانيا تحاول استمالتها ، وهي كالنسر تنظر إلى الكل من عل ، وأعلن وزير خارجيتها السيد محمد جواد ضريف مؤخرا أن على مجموعة 5+1 أن تقبل بالبرنامج النووي الإيراني كحقيقة قائمة ،وأن مجهودات علماء إيران في هذا المجال غير قابلة للتقييد . وتواصل إيران مسيرتها مند ثورة 1979 بإصرار ، في الوقت الذي ابتليت فيه جل الشعوب العربية بأنظمة ديكتاتورية واستبدادية فضلت التبعية للهيمنة الامبريالية ، وصادرت حق شعوبها في العلم والتصنيع والانعتاق، والتمتع بثرواتها .
فماهو النهج الذي سلكته إيران ؟
وما هي المعارك المصيرية التي خاضتها لتصل إلى ما وصلت إليه ؟
وهل هي فقط دولة دينية متزمتة كما يدعي الكثيرون ؟
بعض مميزات الشعب الإيراني.
يعتقد الكثيرون متأثرين بالإعلام ،خاصة الأمريكي، الذي ينعت إيران بالانتماء إلى محور الشر ، وبمجموعة من الآراء التي لا تنظر إلى إيران إلا من زاوية دينية ضيقة وصرفة ، أن إيران متشددة دينيا وعدوة لدودة ، بينما تعد إيران دولة منسجمة مع ذاتها ومنطلقاتها وتاريخها الهام ، ومثالا يحتذى به في العناد الواعي والإيجابي الذي قال فيه الإسكندر الأكبر » لو امتلكت جيشا في عناد الإيرانيين وصبرهم وقدرتهم على التحمل لغزوت العالم كله » .
وإيران نمتلك جبهة داخلية عريضة ترفض التبعية والتدخلات والضغوطات الخارجية ، وتقف كسد منيع ضد مصادرة استقلالية قراراتها ، وتؤمن بأن ثمن الحرب إذا اعتدي عليها أقل كلفة من ثمن الاستسلام ، وعانت من أنظمة ديكتاتورية واستبدادية وعميلة لأمريكا والكيان الصهيوني اللذين استهدفا ثرواتها وتقرير مصيرها الاقتصادي والسياسي .
هذه العوامل الداخلية بالإضافة إلى ثرواتها النفطية وموقعها الجغرافي برا وبحرا الحساس، وما له من مزايا وأخطار ، وما طرحه ويطرحه من مسؤوليات (2)، جعل إيران تؤمن بأن استقلالية قراراتها ، وتطوير قدراتها العلمية والعسكرية ومواكبة المستجدات في هذا المجال ، وإحراز القوة للدود عن مقوماتها ، ومواجهة الأخطار الخارجية ، هي السبل إلى العزة والمناعة والعيش الكريم ، ولم تتردد في السير على هذا النهج ، وهذا ما جر عليها العديد من الانتقادات والمضايقات .
. الصراع ضد أمريكا والكيان الصهيوني .
وأمريكا لا تريد لإيران أن تكون قوة إقليمية تضاهي الكيان الصهيوني ، ودولة علمية قادرة عل تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية ، فالصراع الإيراني مع أمريكا والكيان الصهيوني ،الذي يعود إلى سنوات طوال قبل الثورة الإيرانية ،والذي أدارته وتديره إيران بعد الثورة بحكمة وروية دون أن تتنازل عن كرامة الشعب الإيراني ودون أن تخضع للمساومات رغم كثرتها من الجانبين الأمريكي والصهيوني ، و حرص الامبريالية العالمية على التفوق الصهيوني وإرادتها القوية في تكييف المنطقة وفق مصلحة الغرب الامبريالي وعلى رأسه أمريكا ، و إدراكها (إيران) لدقة وضعها وما تطلبه ويتطلبه من تعامل خاص ، يجعل منها بغض النظر عن تصرفاتها في جهات وقضايا أخرى، دولة محط إعجاب و جديرة بالاحترام والتقدير خاصة لدى مواطنيها على اختلاف أعراقهم و أجناسهم وأقوامهم ودياناتهم ولغاتهم (3).
وهذا الصراع لا يعود إلى الخلافات حول امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية كما يعتقد الكثيرين ، بل تمتد جذوره تاريخيا ، والأصل فيه يعود إلى تغلغل النفوذ الأمريكي داخل إيران بشكل يعيق استقلالية القرارات الإيرانية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ويكرس تبعيتها ، ويستنزف ثرواتها .
وبالعودة إلى التاريخ القريب ، كانت أمريكا في هذا الصراع داخليا تؤيد الديكتاتور شاه إيران محمد رضى بلهوي ضدا على الشعب الإيراني ، وعلى عهده كانت السفارة الأمريكية في إيران وكرا للاستخبارات الأمريكية ، مثلما كانت السفارة الصهيونية بإيران مرتعا خصبا للموساد ، حيث كان الكيان الصهيوني الذي اعترف به الشاه مند 1960 يعتبر علاقاته مع إيران إستراتيجية طمعا في ثرواته البترولية وغيرها التي كان الشاه يغدق عليه منها بسخاء في تعامله التجاري معه محاباة لأمريكا.
وأجهضت المخابرات الأمريكية جهود الشعب الإيراني في التحرر الاقتصادي ، والتمتع بثرواته ، عندما واجهت حركة محمد مصدق القومية التي قامت ضد تغلغل النفوذ الأمريكي والصهيوني ، وكان هدفها تحقيق ديمقراطية دستورية . ونجحت الحركة في زعزعة استقرار نظام الشاه ، واضطرته إلى الفرار خارج البلاد ، إلا أن أمريكا ساعدته ضدا على الشعب الإيراني ليعود وتبدأ حقبة ديكتاتورية جديدة استمرت إلى حدود الثورة الإيرانية 1979.
محمد مصدق فرضه الشعب الإيراني كرئيس للوزراء ضمن حكومة منتخبة ديمقراطيا سنة 1952 ، وتألم الإيرانيون عندما أطاحت أمريكا دعما للشاه بمشروع حكومته الذي تضمن من بين قراراته التي جاءت بدعم من البرلمان ، تأميم النفط الإيراني الذي ضل الشاه كعميل لأمريكا والكيان الصهيوني مند ما يزيد على 26 سنة يبيعه لهما بأثمان بخسة .
ومن بين أسباب الصراع بين إيران من جهة وأمريكا والكيان الصهيوني من جهة أخرى، الإرث الناتج عن تعامل الشاه معهما .
فبخصوص الجانب الصهيوني ، عقد الشاه صفقات لشراء الأسلحة مع المصنع الصهيوني سولتام الذي كان متخفيا تحت اسم مصنع ألماني يدعى سلجاد حتى يوهم المتتبعين أنه كان يشتري الأسلحة من أوروبا .
وفي المرحلة ما قبل الثورة الإيرانية بقليل ، عقد الشاه صفقة مع سولتام لبناء مصنع للأسلحة بمدينة أصفهان ، ودفع للكيان الصهيوني نصف المبلغ المتفق عليه وهو200 مليون دولار ، و تسلم الكيان من الشاه مبالغ ضخمة لاقتناء عدد من القاذفات وصواريخ أرض ـ أرض لم تستلمها إيران ، واعترف الموساد في نفس الفترة أن الكيان حصل بالإضافة إلى ذلك على ثمانية ملايين طن من النفط لم يسدد ثمنه ، وبعد الثورة الإيرانية وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني مباشرة ، لم ترغب إيران الثورة في بناء المصنع على يد الصهاينة، ولم يرد الكيان المبالغ المدفوعة له .
وللإشارة فإن هذه المبالغ أصبحت وسيلة لابتزاز الرؤساء والمسؤولين الإيرانيين بعد الثورة ، حيث يشترط الكيان دفعها ، بتحسين العلاقة معه والاعتراف به ، و شارون من بين الذين استعملوا هذا الابتزاز إلا أن رؤساء إيران وحكوماتهم لم يعيروا أي اهتمام لهذه الإغراءات والمساومات وبقي موقفها من الكيان ثابت على الدوام.
أما أمريكا ، كعقاب للثورة الإيرانية ، صادرت الودائع الإيرانية في البنوك الأمريكية مند 1976 وتبلغ قيمتها عشرة بلايين دولار، وهي أموال للشعب الإيراني ، وكانت ترفض حتى التفاوض من أجل استردادها .
أخذ ت إيران بأسباب الحداثة والتطور الصناعي خاصة في مجال التسلح دون تردد، ولم تغير موقفها تجاه الشيطان الأصغر .
وتقديرا لموقعها الجغرافي الحساس ، وللدور الذي من الواجب عليها القيام به في ميزان القوى ، وتماشيا مع مواقفها تجاه الكيان الصهيوني ، وأمريكا هذه الأخيرة التي توصف في الخطاب الثوري الإيراني بالشيطان الأكبر ، عملت إيران مبكرا على الأخذ بأسباب الحداثة في مجال تصنيع البلاد ، وتطوير أسلحتها ، من حيث الكم والكيف وتنويع مصادرها .ودافعت وتدافع باستماتة على حقها في الحصول على الأسلحة القادرة على درء الأخطار التي من الممكن أن تحدق بها .كما طورت أجهزتها الاستخباراتية التي اخترقت إسرائيل وأمريكا .
وقال الدكتور أحمدى نجاد الرئيس الإيراني السابق ، وهو يعكس رأي الشعب الإيراني » إن التطور ليس اختياريا وإنما هو فرض واجب ، بل نحن مضطرون أن نسبق التطورات العالمية ، وأي مقاومة في هذا المجال سوف تكلفنا الكثير ، يجب أن تكون سرعتنا متناسبة مع سرعة التطورات من حولنا ، يجب أن تكون عملية متطورة وتستفيد من آخر منجزات العالم المعاصر .. » لم تناقش إيران بعد الثورة كما فعلت مجموعة من الدول العربية موقف الدين من العديد مما أنجزته الحداثة بل دعت إلى السبق والريادة حتى أصبحت بلد العلماء .
لم تتراجع إيران في الملف النووي ولم تقدم أي تنازل يذكر عن حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية ، وأحيانا كشفت عن نواياها بصراحة ، كما فضحت التغاضي عن الملف النووي الصهيوني والكيل بمكيالين .
ولم تتراجع عن موقفها من الكيان الصهيوني فمند فجر الثورة الإيرانية سنة 1979 طردت إيران سفراء الكيان الصهيوني، وأنزلت علمهم ورفعت العلم الفلسطيني بدله وسلمت مفاتيح السفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ونفى الرئيس السابق محمود أحمدى نجاد حدوث المحرقة الصهيونية ، ودعا إلى محو إسرائيل من خريطة العالم ، وأصدر مجلس الأمن الدولي بتاريخ 27/10/2005 بيانا يدين فيه تصريحات محمود أحمدى نجاد خاصة محو إسرائيل من خريطة العالم ، ولم يتراجع نجاد عن مواقفه بل أصر عليها وأكدها ، ولم يعتذر لإسرائيل ولا إلى غيرها وخرج الشعب الإيراني في مظاهرات تؤيد مواقفه ، مع العلم أن مجرد إنكار المحرقة عوقب عليها حتى في بعض البلدان العريقة في الديمقراطية كفرنسا . أما الخميني وهو أول من نطق ونعت أمريكا بالشيطان الأكبر فيقول » ذكروا الناس دائما بأخطار إسرائيل وعملائها.
وقاطعت إيران حتى مصر بعد معاهدة كامب ديفيد رغم أنها كانت لها ديون عليها تقدر بملياري دولار .
علاقات إيران الخارجية شبيهة بتلك التي تنهجها الدول العلمانية .
في علاقاتها الخارجية تتصرف إيران كتصرف الدول العلمانية بحيث تربطها علاقات مع دول مختلقة ، اشتراكية ورأسمالية ، بغض النظر عن دياناتها ومعتقداتها…. ، ماعدا إسرائيل التي تنعتها بالشيطان الأصغر مقابل أمريكا الشيطان الأكبر .
وأقامت علاقات ترعب أمريكا التي تخشى من تكوين جبهة مضادة لمصالحها ، خاصة العلاقة مع كوبا ، وعلاقات التعاون مع فينيزويلا التي تعد خامس منتج للنفط في العالم وكان الرئيس الفنيزويلي الراحل ( إيكو شارفيز ) يعتبر إيران نموذجا يقتدى به .
وتعد إيران ثاني مصدر للنفط للصين ، وتربطها بها علاقة تعاون هامة ، وكذلك روسيا ،
ولها علاقات مع عدة دول عربية كسوريا والبحرين .
وعلاقاتها أيضا وطيدة مع دول عدم الانحياز ، وصلت إلى تأييد ممثليها في الوكالة الدولية للطاقة الدرية لملف إيران النووي وتأكيد حقها في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية .
أين الدول العربية من إيران التي حصنت جبهتها الداخلية فأصبح أعداؤها يهابونها ويحاولون استمالتها؟
محمد بونبف
(1) عباس عراقجي وزير الخارجية للشؤون القانونية والدولية ، وعضو الفريق النووي الإيراني
(2)حدودها الغربية مع العراق ، والشرقية مع أفغانستان وباكستان ، هذه الأخيرة الذي يربطها مع الهند تنافس نووي قوي ، و حدودها البحرية التي يبلغ طولها 2500 كيلو متر ، وتشرف على مضيق هرمز الممر الهام الذي تعبره 40% من النفط العالمي .
(3 ) إيران دولة متعددة الأعراق والأجناس والأقوام والديانات واللغات تضم 60 % من الفرس ، الأكراد 10 ملايين ، و 12 مليون من الأذريين ، والعرب في عربستان ، والتركمان والبلوش، والزردشت ، والأرمن ، والمسيجيين ، واليهود .
Aucun commentaire