الرجل الذي طال ليلُه تَجَوُّعاً وكَثُرَ استغفارُه تَضَرُّعاً
المقامات الدفية : الدف السابع والعشرون – الرجل الذي طال ليلُه تَجَوُّعاً وكَثُرَ استغفارُه تَضَرُّعاً
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل النكرة والبِدون، قضى عمره باحثا متسائلا محاولا فك سره المكنون ، وقد اشتهر بالخصخصة في مجال أكل الخبز والشاي والفول والزيتون…كان كلما خيم الليل إلا وكبت رغباتِ أبنائه معتذرا ، محاولا إقناعهم بأن الصحة في النوم مادام الليل مُنْحَدِرا، فعاش كل لياليه صابراً أمام الطلبات والشهوات مصطبِراً…مرت عليه أيام وهو في نفس الحال متمسكا بقضاء الأعوام والشُهور، حتى بدت على جسده الرخو يبوسة زَيَّنَتها آثار التجاعيد والبُثور، وعَدَّهُ الأهلُ والأصدقاءُ وكلُّ من رآه أنه أصبح من أهل القبور…نصحوه كثيرا بالاعتناء بصحته وضرورة زيارة الطبيب ، وكان يرد محاولا إقناع نفسه والآخرين بالقسمة والنصيب ، ضامرا عوزه وحرجه أمام ورطات خواء وفراغ الجيب…يروي بعض الفضوليين المتخصصين في تتبع العورات والأخطاء والهنات والعيوب، أن صاحبنا كلما استيقظ صباحا وجد نفسه محاطا بشتى أنواع الكروب ، بعد أن كرَّر طرْقَ كل ما يمكن طرقه من الأبواب والنوافذ والدروب…وحدث يوما أن حضر وليمة كان فيها كل ما لذ وطاب من الفاكهة واللحم والدجاج، حيث أكل وشبع وانتفخ حتى تبين له الخيط الحلو من الخيط الأجاج ، وشعر بانتعاشة غريبة في مصارينه تدخل جسده من كل الفجاج…عاد إلى بيته ثملا يجر خطاه وهو يتمايل بفعل التخمة والشَّبَع، ولما وصل بعد جهد ومشقة وجد بطون أبنائه عارية تطل كأفراخ البَجَع ، حينها أحس بدوار يشبه ما كان يُصيبه في السابق من الصرع…انزوى في غرفة لوحده لينام متحسبا لكل طارئ قد يحدُثُ ، وهو متأكد بفعل الشبع أنه سيخلط في الكلام أو يرفُثُ ، وزاده اقتناعاً أن هذا النوع من الأكل لا يدوم ولا يَمْكُثُ…بعدها ألقى برأسه على وسادة لم تعْهَدْ فيه نغمة الشخير، واستسلم لنوم عميق هادئ استُبْدِلَ فيه اللحم بالفطير، وابتسمَتْ فيه لَهُ الدنيا بكل ما فيها من رغد ورزق وفير…يعلق أحد محبي حشر الأنوف ومريدي وطالبي علم الفضول ، أن صاحبنا بعد الأكل أحس أنه قد أصبح بأربعة عقول ، فاستغفر قليلا آملا أن ينال ذلك كثيرا من القَبول …وأضاف أنه قبل أن ينام دعا ربه أن يموت في الحال ، تبعا للمثل السائر : من مات على الشبع وهناء البال، لا رفع الله له رأسا ولا سَلِمَ من القيل والقال…ذهبت أيام وجاءت أخرى تجري فيها الرياح بالجديد ، من حيث لا يدري صاحبنا وبما لا يشتهي وبما لا يريد ، حيث ألم به مرض ألزمه الفراش تحت وطأة الألم الشديد…فما كان له إلا أن يخضع لعمليات الشم والأبخرة والكي ، ولما زاد الألم نقل على وجه السرعة إلى مستشفى الحي ، بعد أن تدخل أهل العلم والتجريب والمشورة والرأي…طلبوا منه تحليلات وأشعة وصوراً لمعرفة أسباب الداء ، بعد أن جسوا نبضات قلبه وحددوا له موعد اللقاء ، وكانوا قد قدَّروا أن يكون قد أصيب بجفاف في الأمعاء…أحضر لهم في الغد كل الوثائق وكل المطلوب ، فأحاطوا به يريدون فهم وضعه المقلوب ، وهو ممدد على السرير بين المقيد والمصلوب…أخذ كبيرهم صور الأشعة وسلط عليها إنارة ومسحها بعينيه مسحاً ، عله يجد بها جسما غريبا أو عضوا منفصلا أو قَرحاً ، ثم اختلى بصحبه حائراً هامسا لهم يريد بوحاً…أرسلوه ليجري فحصا مفحوصا بالماسح الضوئي بشكل عميق ، حتى يتم الكشف عن كل خلل يُعطيهم بصيص أمل أو أي بريق ، لأن المسألة تحتاج منهم إلى وقت وتأنٍّ وقرار دقيق…عاد بما طلبوه وبما لم يطلبوه وقد أنهكته الفواتير ووخز الإبر، وندم على عدم أخذه بنصائح معارفه وعدم استفادته من العبر ، مُسَلِّما أمره للقضاء وإرادة الله خالق الكون والبشر…أما هم فقد استعانوا بكل الخبراء والمتخصصين والمهتمين والمطلعين ، وقد قضوا نهارهم وليلهم باحثين مشككين غير مقتنعين ، مذهولين من حالة الرجل المستعصية ومن أجله ظلوا مجتمعين…أوصلوا جسده بآلات بدأت تتراقص أضواؤها على إيقاع نبضاته ، والممرضات تحُمنَ حوله تراقبن جهازا تتزايد أنوار ومضاته ، وصاحبنا تتقطع أوصاله ألما ماسكا بطنه بقبضاته… يتابع أحد الفضوليين العارفين سرد أحداث الرواية وفصولها، أنهم غسلوا أمعاءه من شوائبها وعدسها وحمصها وفولها ، وأخذوا عينة من معدته لتشريحها ومعرفة جذورها وأصولها…وبعد أن نزعوا وحللوا كل عينة من كافة جسده ، وجدوا نسيج عنكبوت قد سَيَّجَ بلعومَه وأطرافاً من مسده ، فأخبروا أهله أن « الكوليسطرول » قد بدأ يسري في عروقه فاتكا بكبده…لملموا أحشاءه بعجالة وكتبوا تقريرا يضم حروفا وأرقاما ومذيلا بمجموع ، مبينا ومُفصلا ومجملا لكل ما قدموه له من خدمات طيلة أسبوع ، وطلبوا من أهله السداد شارحين لهم القضية بكلام مفهوم ومسموع… كتبوا لهم وصفة وأوصوهم بأن يمنعوه من كل أنواعالدهون ، وطلبوا منهم أن يحمدوا الله أنه لم يُصبْ بداء في القولون ، فتعجب الأهل كيف يكون هذا من وراء الفول والشاي والزيتون !…تردد صدى صوت الفول في سمع صاحبنا فاستيقظ مذعورا ، فوجد نفسه على فراشه البارد ممدداً مُنبطحاً منشورا ، وزوجته بالصينية حوله تتمنى له عشاء مباركا مبرورا…استغفر الله كثيرا ولعن الشيطان داعيا عليه بالثبور والويل، بعد أن أدرك أن الوليمة كانت مجردَ حلمِ طولِ الليل ، فتحسس بطنه سبع مرات ومات مائلا كل الميل…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك أن جوعه قد أطال ليلَه ، حرَّم الشاي والزيتون وكره الفول وكلَّ من يعشقُ أكلَه ، ثم مات ميتة الذين ماتوا بنفس السبب والداء قبلَه …. يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
Aucun commentaire