قراءة إجمالية في سورة فصلت
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
قراءة إجمالية في سورة فصلت
عبد المجيد بنمسعود
أولا: التعريف بالسورة:
أ – التسمية:
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير:
تُسَمَّى حم السَّجْدَةِ بِإِضَافَةِ حم إِلَى السَّجْدَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» لِأَنَّهَا تَمَيَّزَتْ عَنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَة من سُجُود الْقُرْآنِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ خَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ (1) : «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: تَبَارَكَ، وَحم السَّجْدَةِ.
وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ مَصَاحِفِ الْمَشْرِقِ وَالتَّفَاسِيرِ سُورَةَ السَّجْدَةِ، وَهُوَ اخْتِصَارُ قَوْلِهِمْ:
حم السَّجْدَةِ وَلَيْسَ تَمْيِيزًا لَهَا بِذَاتِ السَّجْدَةِ. وَسميت هَذِه السُّورَة فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ سُورَةَ فُصِّلَتْ. وَاشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي تُونِسَ وَالْمَغْرِبِ سُورَةُ فُصِّلَتْ لِوُقُوعِ كَلِمَةِ فُصِّلَتْ آياتُهُ [فُصِّلَتْ: 3] فِي أَوَّلِهَا فَعُرِفَتْ بِهَا تَمْيِيزًا لَهَا مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم. كَمَا تَمَيَّزَتْ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ بِاسْمِ سُورَةِ غَافِرٍ عَنْ بَقِيَّةِ السُّورِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم.
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَصَابِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: 12] ، وَتُسَمَّى سُورَةَ الْأَقْوَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها (فصلت: 10) .
ب – أَغْرَاض السورة:
التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَذِكْرُ هَدْيِهِ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ الْبَاطِلُ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ. وَتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لَهُ بِالْإِعْرَاضِ وَصَمِّ الْآذَانِ. وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ أَصْلًا فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ. وَزَجْرُ الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ بَيَانِ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَشَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمُ الْكُفْرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّاسِ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَفْوَتِهِمْ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهَ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتثبيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَبِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ أَمْثَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ وَعِبَرٌ فِي تَقَلُّبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّنْوِيهُ بإيتاء الزَّكَاة.
ثانيا: وقفة لتدبر الآيات واستخلاص معالم الهدى المنهاجي:
أ – صفات منزل الكتاب جل جلاله: رحمن رحيم، وفي ذلك ما فيه من أن عنوان هذا الكتاب العزيز، هو الرحمة الشاملة التي تنطق بها نصوصه، وتتضمنها تعاليمه وأحكامه، ونظمه وحدوده.( إنها رحمة تشمل المؤمن والكافر والبر والفاجر، وتعم العالمين، بشواهد الكتاب والسنة العديدة والمتنوعة).( 1 و2).
و ووردت صفات وأسماء أخرى منها ما هو منطوق، ومنها ما هو مفهوم من سياق الآيات، أسردها فيما يلي:
1 – الأسماء الحسنى:
رب العالمين، العزيز العليم، غفور رحيم، ، بصير، حكيم حميد، ذو مغفرة وذو عقاب أليم، وما ربك بظلام للعبيد، إليه يرد علم الساعة، على كل شيء شهيد، بكل شيء محيط، السميع العليم، محيي الموتى، على كل شيء قدير.
2 – الصفات:
الخلق، الرزق، تقدير الأقوات، الحشر، القدرة، العلم، تقييض القرناء الذين يزينون للكافرين أعمالهم.
ب – صفات الكتاب المنزل: مفصل الآيات، عربي، بشير، نذير، هدى وشفاء للمؤمنين، وقر في آذان الذين لا يؤمنون، وهو عليهم عمى.
– فهو من حيث كونه مفصلا: تناول كل ما تتوقف عليه سعادة الدنيا والآخرة، تربية وتعليما، معالجة وتنظيما، وضبطا وإحكاما.
– ومن حيث كونه عربيا: فهو يحتوي قدرا لا متناهيا من الحقائق والأسرار، ويختزن إمكانيات لا حد لها من وسائل البيان والتعبير والإفهام، ومن شروط الخلود والغلبة والظهور، ومن آيات الجمال والجلال.
والتنويه باللسان العربي في هذا السياق وغيره من السياقات والسور، تنبيه إلى عظمته وتميزه وتفرده بالأفضلية على غيره من الألسنة، وإرشاد إلى ضرورة حمايته وحفظ منزلته، فهو مفتاح البيان، والولوج إلى عالم أسرار وجواهر القرآن الحسان، وهو المدخل إلى إرساء صرح الحضارة والعمران، وإشاعة ثقافة القرآن.
وهو من حيث ما هو منوط به من وظيفتي البشارة والنذارة، يحقق التوازن العقلي والوجداني، ويلامس فطرة الإنسان، ويحرك أشواقه، ويستجيب لتطلعاته، فهو بتلك المثابة باعث على الخير صارف عن الشر.
وهو من حيث كونه هدى وشفاء للمؤمنين، رهين، في تحقيقه لذلك المطلب العزيز، بتوفير شروط تطبيقه على مستوى التخلق بقيمه على مستوى النفوس، وترسم أحكامه على مستوى نظم المجتمع، ليكتمل الإطار السوسيوثقافي لفاعلية هدى القرآن في رفع صرح العمران.
ج – صفات المخاطبين به:
1 – صفات المخاطبين به على الحقيقة: قوم يعلمون، ومن ثم فهم يستجيبون لما جاء فيه من أمر ونهي، وما تضمنه من هدى وعلم. وهم قلة، مقارنة بالفئة المخالفة، بدليل قوله تعالى: » وما أكثر الناس ولو حرصت بمومنين » وقوله تعالى: » وقليل من عبادي الشكور »
2- صفات المخاطبين به ممن تعطلت لديهم وسائل الفهم والإدراك: الإعراض، وعدم الاستجابة، وهم يشكلون الكثرة، بدليل قوله تعالى: » في السورة نفسها: » بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) .
من طباع المشركين الذين هذه صفاتهم:
أنهم يتبجحون بسوء صنيعهم وكأنهم يحسنون صنعا، بإعلانهم السافر عن معاندة من جاءهم بالحق والرحمة، وتعللهم بما يتصفون به من صفات مشينة تتمثل في العمى عن رؤية الآيات البينات، والصمم عن سماع ما يتلى عليهم منها، وتلك من علامات الشقاوة والحرمان التي يحمد المؤمنون الله عز وجل على حفظهم من شؤمها، ومن تجليات الغرابة واللامعقول في سلوك المعاندين الكافرين.( من تلك الآيات التي جاء ذكرها في هذه السورة: خلق الله عز وجل الأرض في يومين، وجعل الرواسي من فوقها، وتقدير أقواتها في أربعة أيام، واستواؤه إلى السماء وهي دخان، أي توجهه سبحانه وتعالى بإرادته وأمره إليها وإلى السماء، وإذعانهما معا إليه بالطاعة والاستجابة، وتزيينه للسماء الدنيا وحفظها بمصابيح، مما يشكل آية من آيات خلق الله وبديع صنعه.
– أنهم يمتنعون عن إيتاء الزكاة، وهي أحد أركان الإسلام التي لا تقوم له قائمة إلا باستيفائها كلها، ويكفرون بالآخرة، والحال أن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان، فهم لا حظ لهم، بهذا الاعتبار، لا في الإسلام ولا في الإيمان، وهما متداخلان مترابطان. وانعدام الحظ في هذين الركنين المتلازمين يؤدي لا محالة إلى ما يلزم عنه من سوء خلق وانحراف سلوك، لزوم النتائج عن مقدماتها.( 6 و7).
– أنهم يسعون إلى الحيلولة دون وصول هدي القرآن للناس بشتى الوسائل، وأخطر وسيلة من ذلك أمرهم للناس وإغراؤهم لهم بعدم السماع للقرآن، وإحاطته بالمشوشات التي تحجب أنواره، وتمنع وصول رسالته الهادية صافية بليغة إلى القلوب والاذهان. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) . فهم جبناء محتالون، لا يملكون شجاعة الإنصات للحق، لاعتقادهم في قرارة أنفسهم بأنه ينطوي في داخله على قوة التأثير والإقناع.
ووسائل اللغو المستعملة في هذا الغرض الدنيء لا حصر لها، وهي تتخذ في كل عصر أشكالا متعددة و ألوانا شتى. ومنها في هذا العصر الإعلام الخادع والفن الفاجر، والتعليم العلماني، وعلى العموم نظام الحياة الذي يقصي القرآن من أي توجيه، أو يترك له هامشا ضيقا بقصد المغالطة والتمويه.
د- منهج الخطاب والدعوة إلى الله: من خصائص هذا المنهج، التي أرشد الله عز وجل إليها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام:
إبراز بشريته للمخاطبين، ومماثلته لهم فيها، لما لذلك من أثر بالغ في توفير أحد الشروط النفسية والموضوعية الباعثة على طاعته عليه الصلاة والسلام والتأسي به، والامتثال لما جاءهم به من أوامر ونواه، وأحكام وتوجيهات. فالمماثلة أدعى للاستئناس، ودرء التخوف والرهبة واستعظام ما ووجهوا به من ذلك.
دعوتهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبودية على مستوى التصور والاعتقاد أولا، وعلى مستوى العمل والسلوك ثانيا، ( التمثل والامتثال). وعلى مستوى الاستغفار، للتطهر وتجديد الصلة وتصحيح السير في السلوك إليه سبحانه وتعالى. وطبيعة هذه الدعوة بتضمنها لهذه العناصر والأركان، تمثل التجلي الأكبر للرحمة التي هي من صفات الله عز وجل العلا وأسمائه الحسنى، والتي صدر بها هذه السورة، وصدر بها فاتحة كتابه بعد إثبات الحمد والربوبية لذاته العلية.
المزاوجة بين الوعد والوعيد، أو البشارة والنذارة، لإقامة الحجة، وتسجيل الإعذار، وفي ذلك ما فيه من طرق القلوب والآذان، وتحريك العقول والأذهان، ليميز الخبيث من الطيب، ويحق القول على الكافرين.( الآيتان: 6 و7).
تنويع أساليب الخطاب في معالجة المشركين والمعاندين، وتحتوي السورة التي بين أيديناعلى ثلاثة أساليب، يتمثل الأول منها في لفت الأنظار إلى ما يزخر به الكون من عجائب الخلق الدالة على الخالق عز وجل ( 9 – 12).
ويتمثل الثاني في التحذير والإنذار مما أعد الله العزيز الجبار للمشركين من أشكال الانتقام التي أنزلها بالأقوام الغابرين من أمثالهم، مثل الصواعق التي حاقت بقوم عاد والريح الصرصر العاتية التي أرسلت على عاد وثمود.( 9 -17).
ويتمثل الثالث في استعراض مشاهد العذاب الأليم التي أعدت للكفرة الجاحدين في نار جهنم يوم القيامة، مما يعد نكاية للسادرين الممعنين، أو تحريكا عنيفا لمن كان لهم حد أدنى من القابلية للعودة إلى الصواب، والأوبة إلى العزيز التواب.(19 – 25)( 27 – 29).
هـ – عدة المؤمنين على طريق الدعوة :
إن الله عز وجل رحيم بالثلة المختارة التي انتدبها لحمل أمانة دعوته وتبليغ رسالته، فهو يكلؤها برعايته، ويمدها بالزاد الروحي والمعنوي اللازم الذي تستطيع به حمل ذلك القول الثقيل، وتشق به طريق الدعوة الشاق. وقد ورد في السورة التي بين أيدينا ما يلي:
1 – رفع معنويات المؤمنين:
وذلك باستعراض ما أعده الله لهم من عوامل اليمن والسعادة والطمأنينة والتثبيت لهم في الدنيا والآخرة، وإشعارهم بالفخر والاعتزاز بعظمة الحق الذي يحملونه في قلوبهم، وسمو الرسالة التي كلفوا بتبليغها للناس، وأبلغ عنوان لما وعد به المؤمنون المتقون المستقيمون على صراط الله العزيز الحكيم هو تحريرهم من الخوف والحزن، الذي يلوح به الملائكة المقربون للمؤمنين، ذلك التحرير الذي يكتسي ملمحا بليغا من ملامح الإعجاز النفسي والاجتماعي والحضاري، الذي يتمثل في أن أنجح نموذج يحمل شعار الإسلام، هو ذاك الذي يحقق أعلى مستوى من درء عوامل الحزن والخوف عن حياة المجتمع الذي يعيش بشريعة الإسلام وقيم الإسلام. وتؤطر ذلك العنوان وتعلوه ولاية الله لأهل الإيمان. أما التحرر من الخوف والحزن في الجنة فتلك أغلى الأمنيات، ومناط السعادة القصوى التي بشر الله بها عباده المؤمنين.( 30 – 32).
2 – تمكينهم من إدراك وتمثل وتفعيل القيمة المركزية العليا التي تتهاوى إزاءها جميع القيم والمعايير الزائفة والزائلة، إنها قيمة الدعوة إلى الله جل جلاله والعمل الصالح والاعتزاز بالانتماء لدين الإسلام، وهذه القيمة هي التي يجسدها قوله تعالى: » وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) .
3 – تزويدهم بالمعيار الخلقي الرفيع الذي يمكنهم من الانتصار في معركة مغالبة عوامل الضعف في علاقتهم مع الآخر الذي قد تصدر منه إساءة تجاههم، ويتمثل ذلك المعيار في توطين النفس على مواجهة الإساءة بالإحسان، أو درء السيئة بالحسنة، بما هو كفيل بتحويل العداوة إلى ولاء، يقول الله تعالى في بيان هذا المعيار الذهبي: » وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » (34) ، ويبين أن ذلك رهين بقيمة عليا أخرى تتماهى مع القيمة السابقة، بحيث إنها تستحيل بدونها، إنها قيمة الصبر، وهذا معنى قوله تعالى مباشرة بعد تلك الآية: » وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. (35).
4 – إرشادهم إلى الوسيلة المثلى في التحرر من نزغات الشيطان التي من شأنها إذا تراكمت أن توهن من عزم المسلم بعامة، والداعي إلى الله بخاصة، إنها سلاح الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والركون إلى حصن الله الحصين، فهو سبحانه وتعالى العليم بأحابيل اللعين، ومكايده ووساوسه، القادر على إحباطها ونسفها وإبطال مفعولها. وإذا ما حالف الداعية التوفيق في استخدام هذا السلاح الفعال، تحررت طاقاته وازدادت فعاليته في تحقيق أهدافه وبلوغ مراده.يقول جل جلاله: » وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
5 – لفت أبصارهم وتنبيه بصائرهم إلى جملة من آياته سبحانه وتعالى في الكون وفي النفس، لتعرفهم بديع صنعه وعجائب قدرته، وواسع علمه، وليقوى – من ثمة – يقينهم في ربوبيته سبحانه وتعالى واستحقاقه جل جلاله أن يفرد بالعبودية والسجود والاستعانة.( 37 إلى47) (49 إلى 51).
6 – تعريفهم على ما جرت به طباع الجاحدين عبر العصور في تعاملهم مع الدعاة إلى الله، وفي طليعتهم أنبياؤه ورسله، وأن ذلك ليس بمثنيهم عن المضي في طريق الدعوة اللاحب لتحقيق مراده سبحانه وتعالى ، وتعريفهم بسننه جلت قدرته في الدعوات، وفي الحضارات، قياما وسقوطا. ( الآية 43).
خاتمة:
إن سورة فصلت بما احتوت عليه من أسماء الله الحسنى وصفاته العلا متخللة سياقاتها النابضة بالتربية والتوجيه والإرشاد والإيحاء، من شأنها أن تملأ قلب المؤمن المتدبر لها بالروعة والجلال، وتمده بشحنات خلاقة تدفعه إلى الحركة الإيجابية المنضبطة تجاه العالم المحيط به بكل مكوناته، وقبل ذلك بنفسه التي بين جنبيه، وتزرع في أعماقه روح المسؤولية تجاه ربه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويملك أمر العباد ويحكم مصائرهم، خلقا ورزقا وتقديرا للأقوات، ومغفرة ورحمة وعقابا، وحكمة وعلما، وإماتة وإحياء وحشرا.
وهي بما دلت عليه من دلائل القدرة وعجائب صنع الله في أرضه وسمائه، في نسق حواري حجاجي يستعرض نعم الله ومننه على الإنسان، من شأنها أن تؤسس لديه قواعد المنطق السليم وأسس المنهج القويم، الذي يضبط حركة الفكر في اتجاه إيجابي يربط المقدمات بنتائجها، ويستثمرها في سياق البناء الحضاري المتين، الذي يحصن العمران، ويصون كرامة الإنسان، بما يجسد معاني الشكر والعرفان، للواحد الديان.
إن قيم الاستقامة والاستغفار والصبر وحسن التفكر، والتواضع لرب العزة والجلال، وشكر نعمه وآلائه، وغيرها من القيم الخلاقة التي تستبطنها سورة فصلت خليقة بأن تجعل الإنسان المسلم والجماعة المسلمة والمجتمع المسلم، في قلب الأمانة العظمى، وعلى منصة الريادة والشهود في أفق ضبط المسار وتصحيح الأوضاع التي أفسدها أولو الكبر والعناد والأنانية والغرور.
إن هذه السورة الكريمة تبشر بظهور دين الله بظهور آياته تباعا لحظة بلحظة، عبر تاريخ البشرية الطويل، فيدخل الناس في دين الله أفواجا يتقدمهم أولو العلم والأبصار، يقول الله تعالى: » سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .(53)
إن أصل الشر والشقاوة في حياة الأفراد والشعوب هي المرية من لقاء الرب جل جلاله، وإن ضمان التوازن في حياة الإنسانية، رهين بإلجام الممترين في دين الله الذين لا يرجون له وقارا، وتوسيع نطاق المؤمنين الذين ينشرون نور الله في الأرض، ويستظلون بظلال القرآن، ويخضعون لشرعه الحكيم.
23 شوال 1439، موافق ل 8 يوليوز 2018
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
Aucun commentaire