النابالم الذي انبت ارزا ـ الحلقة الثانية ـ
رمضان مصباح الإدريسي
الحلقة الثانية:
« حولوا الأشياء المدمرة إلى أشياء نافعة »
تقديم:
رابط الحلقة الأولى:
لعل في هذه القصة ما يدفعنا- اليوم- في اتجاه « قلب الطاولة » على هذا الرعب الذي اسمه « كورونا » لنجعله منطلقا لتصحيح كل شيء من حولنا؛وبصفة خاصة بناء الإنسان المواطن ؛هذا الذي تتعثر كل جهود الدولة اليوم لإقناعه بأنه إزاء جائحة عالمية قد تأتي على كل شيء بهذه البلاد ؛وليس إزاء مخزن متعسف يستكثر عليه التجوال الحر.
لم تدرك الشريحة الواسعة أن حربنا اليوم ،وفي غياب المصل والدواء، هي حرب وعي؛ولا يمكن أن تكسب بدونه؛مهما جيشنا الجيوش .
ويتواصل الحوار بين السيدة « انغا » والعجوز » آمي« :
صمتت « آمي » قليلا ،وبدت كأنها تتأمل غليونها المتجعد،ثم تابعت:
إنها المناطق التي كنا نختارها سابقا لزراعة أرزنا الجبلي؛لأن اختيار مناطق أخرى يجعل محصولنا عرضة للأبقار الوحشية والأيائل. نطقت هذه الكلمات بنبرة عادية ،أما نظراتها التي لم تضعف الشيخوخة لا بريقها ولا نفاذها فقد شذت نسبيا عن مظهرها العام الهادئ.
تأكدت السيدة »انغا » ،الضالعة في تفسير أدق الملامح ،بأن ملاحظة « آمي » هذه لم تصدر جزافا.لم تبد شيئا بل شجعتها على مواصلة الحديث ،وحرصت بدورها على أن يظل مظهرها عاديا.
الأرز تقول « آمي » غالبا ما يعوزنا ،كما يعوزكم أنتم أيضا أحيانا .لا نستطيع أن نعيش على لحوم الحيوانات فقط.لا نقوى على هذا يجب الحصول على الأرز ؛حتى المِرزات الهزيلة التي كنا نزرعها حول المدشر لم تعد تعطي شيئا.لم تكن تربتها خصبة ،أما الآن فقد صارت مواتا تماما.يجب أن نبحث عن مواقع أخرى ،على غرار ما كنا نفعله سابقا كل سنتين أو ثلاث ؛لم يعد الأمر سهلا مع هذه الحرب.
مرة أخرى ساد صمت قاطعته السيدة « انغا »:
ربما أستطيع تزويدكم بالبذور. إني أشكرك لكن المشكل ليس في البذور،إذ نستطيع الحصول عليها بوفرة؛لا إن الصعوبة تكمن في ..سكتت قليلا ثم انحنت إلى الأمام ،ونطقت بنبرة أكثر حدة جعلت السيدة « انغا » تتأكد بأن « آمي » وصلت أخيرا إلى النقطة الأساسية في هذا الحوار.
إن الصعوبة الكبيرة ،تقول آمي،تكمن في إشعال الحرائق .لنزرع أرزنا الجبلي يجب ،أولا،أن نحرق مساحة مناسبة من الأدغال.
وشت هذه المرة رفة جفن خفيفة عن اهتمام السيدة انغا ،رد فعل غير ظاهر تقريبا ،ويكاد لا يكشف عن شعور الانبهار الذي تملكها، شعور مداهم تكتنفه البهجة والتقدير ،بعد أن أدركت ما ترمي إليه العجوز.
المرأتان الآن منزويتان جانبا ،رأسا لرأس ،وحولهما انهمك الجنود في رفع القدور والطعام؛في حين تواصل تدخين « الجاريين » في صمت . بعد أن أجالت السيدة انغا بصرها طويلا في ما حولها أجابت بهدوء:
لقد فهمت قبل شروعكم في غرس شتائل الأرز ،يجب أولا إشعال النار في جانب من الأدغال للقضاء على النباتات الضارة ،وليتمكن ضوء الشمس من النفاذ إلى التربة ؛وأفترض أن المشكل يكمن في صعوبة إضرام النار في هذه الظروف.
ردت آمي وقد بدت فرحة بفطنة محاورتها :هذا ما أعنيه.
إن الصعوبة ،في نظري، تعود الى أسباب عديدة،أولا إن إشعالكم للنار يجذب نحوكم الرجال الطائرين ؛كما أن الفصل لا يساعد على هذا ؛أليس كذلك؟إن الأمطار تهاطلت مما يجعل من الصعوبة – نظرا للرطوبة- انتشار النار بكيفية تلقائية.
إنها لا تنتشر بكيفية تلقائية ،هذا هو المشكل بالضبط. لإضرام حريق يجب عليكم إذن رش النباتات بالبنزين مثلا.
بهذه الكيفية كنا نتصرف سابقا ،أما اليوم فلم يعد بإمكاننا الحصول على البنزين.
أضافت السيدة انغا وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عذبة: بالبنزين أو النابالم ،أليس كذلك؟
وللمرة الأولى منذ بداية الحفلة ابتسمت آمي بدورها وقالت: إن سيدة الفيتنام أكثر حيلة مما يتصور الصيادون.
لقد خمنتْ خطتي وهي الآن على علم بما سأستأذنها من أجله.
آمي ليست بحاجة الى إذن .إن الأدغال ملك للجميع ؛وهي في المقام الأول ملك للجاريين الذين يقطنونها.
ولكنني أفضل الإذن ،إذ من الممكن أن يرتاب جنودك من رؤية رجالنا يحومون ليلا حول المساحات المحروقة بالنابالم.
إن فكرتك تكمن هنا ،إذا كان فهمي قد أسعفني ؛استغلال هذه الأماكن المحروقة في الزراعة ،بهذا توفرون على أنفسكم جانبا من العمل. الجانب الأكثر مشقة،هذا ما أفكر فيه بالضبط.لقد سبق لرجالنا أن حددوا عدة أماكن صالحة.
لقد نظف النابالم تربتها من كل النباتات الضارة ،أفضل حتى مما كنا نستطيع تحقيقه سابقا،لأن الرماد يخصب التربة ،وليس أمام شتائل الأرز إلا أن تنمو .
أجالت السيدة انغا في ذهنها كل ملابسات هذه الخطة ،التي تتطابق روحها ،بكيفية ممتازة،مع قناعاتها الفكرية،ومع طبيعة الفلسفة الحربية التي تشبعت بها ؛ورغم هذا لم تخف بعض الاعتراضات:
إن الرجال الطيارين سيرون الأرز ينمو ،لأن لهم عيونا ونظارات حادة تمكنهم من الرؤية عن بعد؛سيظنون أننا نحن الذين نستغل هذه الأماكن المهيأة ؛وهكذا سيعون بطائراتهم لتقتيلكم.
سيرون مجرد نبات أخضر ،والنبات يعاود دائما الظهور بعد الحرائق،إذا لم نعمد الى اجتثاثه.لن يدركوا أن ما يرونه هو الأرز. سيظنون أنه مجرد نبات بري ،ولكن بشرط.. أي شرط؟
بشرط أن نحرص على أن تكون زراعتنا مبعثرة ،وليس على شكل خطوط مصفوفة،كما يفعل مزارعوكم في السهول.
نستطيع أيضا خلطها بنبات « المينهوت » MANIOC الذي يشبه في مظهره النباتات البرية.إن هناك ألف وسيلة للتدليس عليهم ،يكفي أن نفكر.
بوسع « آمي » أن تطمئن الى أن جنودي لن يعرقلوا بأي شكل هذه الخطة.إني متيقنة الآن أن ذهن آمي أكثر حدة من ذهني،لم أكن أتصور هذه الخطة أبدا.
أبدت المرأة العجوز اعتراضها بتحريك رأسها ،وقالت بتواضع:
إن الأرواح تلهمني أحيانا،وهناك عاليا في الجبل ليس لي ما أفعله سوى التفكير.
ألحت السيدة انغا: لم تكن هذه الفكرة لتراود ذهني أبدا .إني أشكرك ألف مرة،لأننا نحن بدورنا سنعمد الى تنفيذ هذه الخطة،في أماكن أخرى من الأدغال حتى لا نضايقكم.نحن بدورنا يعوزنا الأرز؛إننا مضطرون الى استيراده لتزويد فرقنا الجنوبية ،وهذا يكلف غاليا.
إن الأدغال واسعة والطرق التي يسلكها جنودك طويلة ومتعددة ؛وما دام الرجال الطيارون قد بدأوا فإنهم سيحدثون في كل مكان تقريبا مساحات قابلة للزراعة .طبعا ستكون المرزات صغيرة ،وسيكون محصول كل واحدة قليلا بدون شك ،لكن عددها سيقدر بالآلاف ،وفي هذا الكفاية لتغذية جنودك ورجالي .كل هذا بفضل النابالم.
انتهت الحفلة وسويت كل المشاكل الجدية بما يرضي الجميع.
سلكت العجوز آمي والجاريون طريق العودة الى مداشر الجبال لإعداد القرابين وتلاوة الصلوات من أجل خالق الأرض ليجود بمحصول وفير ؛أما السيدة انغا فقد استغرقت طويلا في التأمل ،بذهن في غاية الانشغال بما راج في الحوار،مصممة العزم على إعداد خطة من مستوى عال ،لعرضها على الرئيس من الغد..هكذا وفي جو معتدل عبر الركب ،تتقدمه شاحنة الجنود، الممر الجبلي متجها أخيرا صوب الشمال؛مخلفا وراءه المناطق الجبلية بسكانها البدائيين ،وكذا طريق « هوشي منه ».
أعطى العم هوشي موافقته بدون أي اعتراض ؛بل على العكس تملكه شعور بالحماس ،نظرا لبراعة الخطة ذات النفع الأكيد ؛فأصدر أوامره لاعتمادها على مستوى واسع في كل الفيتنام.
هكذا بدأت في أماكن متعددة من الأدغال – أماكن مختارة سلفا،ويتم تجنبها بكل حرص من طرف قوافل الجنود –عمليات استدراج لطائرات العدو ،بواسطة المرايا العاكسة ؛بعد أن تكون آذان الأدغال قد بثت ،بقصد تضليلي ما يشبه الى حد كبير ضجيج المحركات.
وبهذه الكيفية الذكية أخذت الحرائق في الظهور ،عبر مناطق متعددة نتيجة للقصف بالنابالم والفوسفور ؛وكانت الحصيلة المتنامية عددا من الفجوات في الغابة الاستوائية تنفذ منها أشعة الشمس الدافئة لتخصيب تربة تغطيها طبقة من الرماد ،تشكل سماد لا مثيل له.
هذه المِرزات المستحدثة ،والتي لم يسبق أن فكر فيها أي مهندس زراعي ،يتم العمل فيها ليلا .لقد زرع الفيتناميون أعدادا منها من الشمال الى الجنوب ،على طول السلاسل الجبلية ؛وكان من نصيب الجاريين عدد من المرزات القريبة من مداشرهم ،وقد بلغت من الوفرة ما يكفي حاجياتهم المتواضعة.
لقد قدموا قبل الشروع في عمليات الزرع الليلية قربانا وجرة خمر على إيقاع ترتيل استُهل بالآتي:
« يا خالق الأرض ،إننا ندعوك هنا ،يا مبدع الأرض، لتتقبل شرابنا وتأكل من كبد قرباننا .كن في عوننا يا خالق الأرض .هب لنا وافر الغيث والمرزات.
وبعد أن رأى « موك » (ساحر القرية) في منامه نهرا جاريا أيقن أن خالق الأرض أذن لهم في زرع المرزات الجديدة ؛وعلى الفور شرعوا في العمل بمهارة.
لقد أطْلعت « آمي » السيدة انغا على وجهة نظرها في الموضوع قائلة: من المفيد استجلاب عون الأرواح بالقرابين وبالصلاة،وليس قبيحا أيضا تسهيل مهامها بخلوة تأمل صبور.
ومن شأن ملاحظة كهذه ألا تعدم وقعا في نفس الفيتنامية ؛بحيث آخذت نفسها على عدم التصرف بهذه الروح الصافية أمام مشاكل القصف الجوي بصفة عامة.لقد دفعها هذا الى الأخذ بنصائح عجوز الجبل ،والتفكير في هذه المشاكل بصفاء وتركيز ،وحمل مساعديها على الحذو حذوها.
هكذا عمت الفيتنام بأسره ،من الشمال الى الجنوب،كلمة السر: « حولوا الأشياء المدمرة الى أشياء نافعة ».
هكذا بدأنا نلاحظ تزايد تربية أسماك « الشبوط » وأصناف أخرى في الحفر التي تحدثها القنابل .وفي مناطق أخرى حولت هذه الحفر الى خزانات لماء الري.
استحوذت على الجميع روح التنافس الشريف ،ولم تكن الفرقة الصغيرة المتخصصة في تضليل آذان الأدغال بمنأى عن هذا الجو؛لقد استهوت هذه الإستراتيجية الروح الصينية التي يتمتع بها الدكتور « وانغ » مما دفعه الى وضع تقنياته الممتازة رهن إشارة السيدة »انغا » التي يعترف لها بالعبقرية .لقد ترك جانبا اهتماماته الفيزيائية النظرية ،التي رفعته الى مصاف كبار العلماء في العالم ،ليتفرغ مع بعض مساعديه للبحث عن تسجيلات صوتية أكثر فعالية وتضليلا،وقادرة على استدراج القاذفات الأميركية الى الأماكن المرغوب في زراعتها ،وفي الوقت المناسب.
… ولمدة طويلة لم يدرك الأمريكيون مدى ما قدموه من مساعدة ثمينة لأعدائهم.هكذا أصبح بوسع السائقين و الجنود أن يحصلوا ،في عي المكان، على جزء أساسي من زادهم ،وهذا ما وفر عليهم مصاريف نقل مهمة.وكلما احتد القصف كلما أصبح بالإمكان زراعة مساحات أكبر،وزيادة عدد القوات الجنوبية تبعا لهذا.
وكل هذا ، كما تردد آمي في خيمتها المنعزلة والمطلة على الأعالي –حين ينقل إليها رسل السيدة « انغا » تفاصيل السير الحسن للعملية- كل هذا بفضل عناية خالق الأرض ،وبفضل التروي الصبور للناس، وبفضل النابالم.
P.BOOLE
LES OREILLES DE LA JUNGLE
FLAMARION/1972
Aucun commentaire