هل تحالف الديانات يؤدي إلى وقف العنف والكراهية؟
أحمد الجبلي
يقول الشاعر الفرنسي شارل بيجي: » من يعرف الحقيقة ولا يجاهر بها بأسلوب عنيف، فهو يتواطأ مع الكذابين والمزيفين »
من المؤكد أن محاولة جمع الأديان السماوية في إطار بوثقة التسامح ونبذ العنف والكراهية هي محاولة طيبة، ولا أعتقد أنها ستجد من يرفضها أو يحاربها، خصوصا من طرف المتدينين المسالمين من جميع الأديان، سواء كانوا يهودا مثل أولائك اليهود الذين قبلوا حكم الله عليهم بالشتات، وهم الآن يرفضون رفضا مطلقا الاستعمار الصهيوني على اعتبار أن اجتماع اليهود في أرض ما، يعد إنذارا بنهايتهم. أو كانوا نصارى يقتصر تدينهم على حضور قداس يوم الأحد، ولا علاقة لهم بالتبشير الذي يعد استمرارا للحروب الصليبية، والذين يتبنون ويدعون إلى حكمة سليمان عليه السلام: » من دواعي شرف المرء أن يتفادى الخصومة، والأحمق يخوض معترك النزاع » كما جاء في كتاب « حكمة النبي سليمان » الذي قيل عنه أنه دون منذ أكثر من 3 آلاف عام، وقد طبعته جمعية الكتاب المقدس الدولية سنة 1977. ولا يؤيدون الاعتداء على المسلمين، بل يحتجون ويشجبون أي ظلم يتعرض له المسلمون.
ولكن هل يمكن أن ينجح هذا الود والتودد والاتفاق على نبذ الفوبيا الدينية والقضاء عليها في كل بقاع العالم، بالاكتفاء بربط اتفاقيات مع هذه الأطراف المسالمة المحبة للسلام العالمي في غاب طرف راديكالي معادي يرى في الإسلام عدوا يجب محوه من هذا الوجود؟ أي كيف سيتم الاتفاق على التسامح ونبذ الكراهية والعنف دون النظر إلى عاملين اثنين الأول يتجلى في المجازر التي ترتكب باسم الرب في حق المسلمين في جزء من أراضي الإسلام كفلسطين والعراق وسوريا على سبيل الحصر، والثاني هل سيتم تغيير النصوص الدينية في العهد القديم والجديد التي تؤسس للاستعمار والغزو والقتل وسفك الدماء وتعمل على التمهيد لظهور المسيح من أجل بدأ معركة أرمجدون وقتل الزرازان والتي يتبناها ويتعصب لها الطرف المعادي؟
إننا لا نشك في النوايا الطيبة لأصحاب هذه المبادرة ولا فيمن حضر هذا الملتقى، ولكن الأمر أكبر من هؤلاء الطيبين المخلصين بكثير، إن الأمر أولا يحتاج إلى أن نعرف لماذا فشل الحوار بين الأديان الذي دعا إليه قداسة البابا يوحنا الثاني في مجمع نيقيا سنة 1979 في رسالته التي سماها « رسالة الفادي » وبالضبط في الفصل الخامس تحت عنوان « الحوار مع الإخوة من ديانات أخرى »؟
إن » رسالة الفادي » هاته، قال عنها « قداسته » أنه يعبر من خلالها عن موقفه من الإسلام والمسلمين. بل إن موقفه من الإسلام هو عينه مفهوم الحوار بين الديانات الأخرى، حيث قال: » إن الحوار بين الديانات يشكل جزءا من رسالة الكنيسة التبشيرية..إنه لا يتعارض مع الرسالة إلى الأمم، إنه بالعكس مرتبط بها، بنوع خاص، وهو تعبير عنها » ويقول: « إن الخلاص يأتي من المسيح، وإن الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل » وبصريح العبارة يضيف: »إن الكنيسة لا تعتبر أن هناك أي تناقض بين البشارة بالمسيح والحوار بين الديانات »، ويقول المبشر دون ماكري أثناء مؤتمر كولورادو سنة 1978 منتقدا رسالة البابا وسياسة الفاتيكان: » إن تاريخ الكنائس وإرساليات التنصير يفضل اقتلاع المسلم المتنصر كلية من بيئته الاجتماعية والثقافية، وأساس ذلك هو إيمان النصارى بأن الثقافة والحضارة الإسلامية شريرة برمتها، وليس فيها ما يمكن خلاصه، بل يتوجب إدانتها ورفضها جميعا ».
وأسمى دواعي هذه الدعوة إلى الحوار هو إقامة النظام الدولي الواحد تحت سيادة الولايات المتحدة، وعصر النظام الديني الواحد تحت سيادة الفاتيكان، إن عملية إعادة التنصير، هاته، تتم من خلال موقف استعماري جديد، تتحد فيه التيارات المتطرفة في كل من السلطة السياسية الأمريكية والسلطة الدينية الفاتيكانية، أي المعادين لكل القيم الإنسانية، مستعينين بكافة الوسائل المعلنة وغير المعلنة، المشروعة وغير المشروعة، من دسائس وفرض للإرهاب، والاختراق، والضغط على الرؤساء والحكومات، وذلك بغية استعمار مناطق مصادر المواد الطبيعية للطاقة والسيطرة عليها، واستغلال وامتصاص ونهب بقية الطاقات الطبيعية والبشرية. فهل يمكن عقد اتفاقيات سلام وتسامح في غياب هذا الغول المتعطش للدماء والذي يحمل مشروعا تدميريا دمويا لم يعرف التاريخ مثله.
فهل لو نجح الحوار بين الأديان كنا سنكون في حاجة إلى الحديث عن تحالفها، إن فشل الحوار لن يؤدي إلى أي خطوة أخرى من التلاقي والانسجام أو المعاهدات الدينية؟ بل وسيتحول هؤلاء الطيبون من اليهود والنصارى هم أنفسهم إلى أعداء لبني جلدتهم ممن يملكون الترسانة العسكرية وسلطة قوية وعالمية رهيبة تعمل على تدمير السلام ودفن أي مبادرة للتسامح والتعايش بين بني البشر.
كما أن هؤلاء لن يتخلوا عن طقوس تبرئة المجرمين ومصاصي الدماء بمجرد الوقوف بين يدي القساوسة والبابوات؟ لكون هذه الوقفات هي الداعم الديني القوي لمزيد من سفك الدماء وقتل الأبرياء لأن كل شيء يجب في اعتقادهم أن يتم باسم الرب.
فماذا عسى يتحقق بوضع الإسلام إلى جنب الطيبين من المسيحيين في وجود المسيحية العالمية وهي تتربص به وقد أقسمت بأغلظ الأيمان أن تجثته من الأرض لأن وجوده وبقاءه يمثل الدليل العملي الكاشف لزيفها وانحرافها عن وحي السماء؟
وماذا يمكن أن يحقق من تسامح وسلم بتجليس الإسلام على نفس المائدة التي يجلس فيها يهود طيبون ومسالمون، مع وجود يهودية ثلمودية متعصبة وصهيونية عالمية لاتزال تغتصب فلسطين، والفلسطينيون لازالوا يقتلون ويشردون وتهدم بيوتهم، هل يعي المسلمون أنهم وحدهم من يعانون من كل هذه العصبيات وهؤلاء السفاحين والقتلة؟
إن الدعم المسيحي المتعصب المؤصل واللامشروط لإسرائيل، يجد جذوره في الأناجيل المعتمدة في أمريكا، حيث يعتقد بعض البروتستانت الإنجيليين أن إنشاء دولة إسرائيل العصرية هو إتمام لنبوة في الكتاب المقدس. على سبيل المثال، يقول رجل الدين جون هايغي في كتابه » العد التنازلي للقدس »: « دوَّن النبي أشعيا هذا الحدث البالغ الأهمية قائلا: « ستولد أمة في يوم واحد »، أشعيا 66:8. ثم يقول: « إنه أعظم إتمام للنبوة شهده القرن العشرون. وهو دليل حي يبرهن لكل البشر إن إله إسرائيل ما زال في الوجود » .تقول نبوة اشعيا: « مَن سمع بمثل هذا؟ مَن رأى مثل هذه؟ هل تولد أرض بالطلق في يوم واحد؟ أو تولد أمة في مرة واحدة؟ فإن صهيون أخذها الطلق وولدت بنيها ». أشعيا 66:8. ويقول السيناتور ألبرت بيفردج في تصريح ديني محض بحمولة سياسية « إن الله اصطفى الأمة الأمريكية من بين كل الأمم والشعوب وفضلها عليهم وجعلها « شعبه المختار » وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من شروره ». كما أن الأمريكيين لا يختلفون في أن تأسيس دولة إسرائيل إنجيليا يعتبر نبوءة دالة على قرب العودة الثانية للمسيح الذي سيشن حربا عالمية كبرى، ولذلك فجميع رؤساء أمريكا يعملون ما استطاعوا على صناعة الحروب والدمار في العالم إسهاما منهم وفق الإنجيل استعدادا وتعجيلا لهذه الحرب التي سوف لا تبقي ولا تذر.
و لا داعي للاستغراب إذا رأينا جميع رؤساء أمريكا يبدأون خطاباتهم بما فيهم الرئيس الأمريكي ترامب بآيات من الإنجيل أو إذا أكثروا الاستشهاد بها، لأن الأمر لا يتعلق بإيمان ديني كما نفهمه، وإنما هو إيمان بمنطق الحروب والدمار والاستعداد لكل ما هو أسوأ، ووفقا لما يقوله الإنجيل الذي يحتوي على أكثر من 1200 آية تأمر بالقتل وسفك الدماء وعدم الرحمة في استعمال السيف.
إن ديننا دين سلام بامتياز، ولا نحتاج لتلميع صورتنا، كما لا نحتاج لتسليم حسن السيرة لأحد حتى يقر لنا بأننا مسالمون ومتسامحون. فديننا يدعو إلى كلمة سواء ولا يدعو إلى كلمة عداء.
إن العصر النبوي الذي يسمي الإمام مالك بعده التاريخي أصوليا وتشريعيا « عمل أهل المدينة » لهو المثال والأصل، والعالم كله يعلم كيف كان يعيش النصارى وكيف عاش اليهود وكيف عاش الوثنيون في كنف الإسلام ودولته، فهل يوجد في أي دين مثل هذه الآية: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). هل يوجد في أي دين اعتبار أذية الذمي موجبة لخصومة رسولرب العالمين يوم القيامة؟
يتحدث الإمام القرفي رحمه الله عن أعظم منهج وقانون يحدده الإسلام في تعامله مع الذميين في كتابه الفروق حيث يذكر من ذلك: » الرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل التلطف والرحمة، ولا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم. » هل يوجد مثل هذا في أي دين أو ملة غير الإسلام. وقد زاد على ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله حيث اعتبر مجرد إلزام أحدهم بزي خاص ليس من الإسلام في شيء.
إن الدعوة إلى التسامح والسلام ونبذ العنف دعوة مقبولة وجميلة، وهي مبدأ من مبادئ الإسلام، بل اسمه نفسه قد اشتق منها، ولكن يجب أن تبدأ بوقف القتل أولا هذا القتل الذي يتعرض له المسلمون في العديد من بقاع الأرض، ثم بعد ذلك تتم عن طريق تقديم مكاشفات ومراجعات حقيقية من جميع الأطراف حتى يعرف العالم حقيقة الديانات التي تورطت في مجازر العنف والقتل وسفك الدماء، وحتى يتم الاعتذار للشعوب التي عانت لقرون من محاكم التفتيش والقتل الجماعي والإبادات الهمجية، أما عن الذين يتورطون في أعمال عنف أوقتل الأبرياء أو إرهاب من المسلمين، فهؤلاء يتبرأ منهم الإسلام مبدئيا قبل أن يتبرأ منهم المسلمون. كما يشجب المنهج الإسلامي الرصين كل الذين يدعون من فوق المنابر بأن يدمر الله اليهود والنصارى، ولو قالوا اللهم دمر المعتدين من اليهود والنصارى لقبله المسلمون وقبله حتى اليهود والنصارى أنفسهم.
ومن خلال ما سلف يتضح أننا وجدنا أنفسنا أمام طرفين اثنين من المسلمين والنصارى واليهود، طرف تجمعه قواسم مشتركة كثيرة على رأسها الدعوة الصادقة إلى التسامح والسلم والعيش في سلام، وطرف من المسيحيين واليهود يرى ضرورة اجتثات الإسلام من جذوره واعتبار المسلمين أحق بالموت من الحياة. وطرف من المسلمين، وإن كانوا يمثلون قلة، لا زالت الشقة بينهم وبين الإسلام بعيدة.
إن التيار المسيحي المتعصب، تمثله الفاتيكان، كما تمثله السياسة الأمريكية الرسمية بدعم من مفكرين عالمين من أمثال فوكوياما، والطرف الثاني يمثله قلة من اليهود والمسيحيين الطيبين مدعمين من مفكرين وقساوسة قلة منهم وليم بيلفلد وبعض حاخامات اليهود المعادين للصهيونية في أمريكا على رأسهم يسرول دافيد زعيم طائفة ناطوري كارتا، وأما من المسلمين فإن الدين الإسلامي كله يدعو إلى السلم والسلام والتسامح ونبذ العنف والكراهية، ومن شذ عنه فهو منه بريء.
Aucun commentaire