هذه جهنم التي توعدون (1) يتبع
هذه جهنم التي توعدون : ( 1 ) يتبع : بقلم عمر حيمري
العلم نوعان : علم غيب وعلم شهادة ، علم الشهادة بدوره نوعان :
( 1 ) علم نظري تهتدي إليه العقول بالتحليل المنطقي ، الذي يربط بين المقدمات والنتائج ، وبين العلة والمعلول ، عن طريق المنطق والتفكير والتأمل والتحليل الاستنباطي ، منطلقا من الكليات ليستنتج الجزئيات ، ومن القضايا العامة ليصل إلى النتائج الخاصة ، مع إقامة الدليل على إثبات النتائج المتوصل إليها والمطلوبة ، بالاستدلال وما يرتبط به من تقسيم ، وتصنيف ، وتحليل ، وتركيب ، وتأليف ، وهو ما يعرف بالمنهج الإستنتاجي العقلي .
( 2 ) علم حسي ، تطبيقي ، يحصل عن طريق الحس والتجربة المباشرة أو غير المباشرة ، ويعتمد على المنهج الاستقرائي التجريبي ، الذي ينطلق من الجزء إلى الكل ويبدأ بالملاحظة ثم الفرضية ثم التجربة ليخلص إلى القانون .
أما علم الغيب ، فمحله القلب والإيمان ، ولا سبيل لنا إلى معرفته ، ولا تهتدي إليه العقول ولا الحواس ، إلا عن طريق المعرفة الذوقية ، أو الحدسية ، أو الوحي ، وما أخبر به الأنبياء والرسل مثل أشراط الساعة وعلاماتها ، وعذاب القبر ، والنشر والبعث ، وأهوال يوم القيامة ، والصراط ، والميزان والملائكة والجنة وما فيها من نعيم والنار وما فيها من أنواع العذاب وأسمائهما وأوصاف كل منهما … والقرآن الكريم يقرر أن مفاتيح الغيب بيد الله ، لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول أو نبي . كما ورد في العديد من الآيات الكريمة منها قوله سبحانه وتعالى : [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول . ] ( سورة الجن آية 26 ) وقوله : [ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ] ( الأنعام آية 59 ) وقوله : [ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ] ( سورة النمل آية 65 ) … والإيمان بالغيب واجب ، يكفر من ينكره ولا يصدق به ، وهو خاصية إنسانية ، تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية ، وهو الحد الفاصل بين طريق الارتقاء إلى العالم الإنساني الخير ، والهبوط إلى العالم البهيمي الغريزي الشرير. ومن هذا المنطلق يمكن أن نعرف الإنسان بأنه حيوان » يؤمن بالغيب » وهذا تعريف أدق من تعريف أرسطو : » الإنسان حيوان ناطق » . لأن النطق وسيلة تفاهم كوسيلة اللغة ، والإشارة ، والإيماءات الجسدية … وهو صفة مشتركة بين الإنسان وغيره من الحيوانات ، والطيور ، والحشرات ، لقوله سبحانه وتعالى : [ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ] ( سورة الأنعام آية 38 ) ويعزز هذا التوجه ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا عن سليمان عليه السلام والهدهد والنملة في سورة النمل ، وما تم بينهما من تواصل وتفاهم . إذ حدثنا القرآن الكريم عن منطق ، ونطق ، الهدهد والنملة ، في أكثر من آية كريمة منها : [ وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ] ( سورة النمل آية 16 ) ويتكرر هذا المعنى في الآيات التالية من نفس السورة : [ حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ] ( سورة النمل آية 18 ) ومباشرة بعد هذه الآية يأتي التأكيد من القرآن الكريم على منطق النملة وقولها : [ فتبسم ضاحكا من قولها وقال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ] ( سورة النمل آية 19 ) . فالإنسان إذن ، لا يختلف عن الحيوان ، والطير ، والحشرات ، بالنطق ، واللغة ، والفكر ، والعقل ـ ( الهدهد أدرك مفهوم الألوهية والسجود للغير الله أي الشمس ) ـ وغيرها من وسائل التواصل ، كما هو ثابت في الآيات السابقة الذكر ، وعند علماء الاجتماع الحيواني ، الذين يرون أن للنحل والنمل والحيوان لغة ، وإشارات ، وروائح ، وإحساسات … بها يتم التواصل مع مجموعاتهم ، بل يختلف عنهم أساسا بالإيمان بالغيب . أما الذين لا يؤمنون بالغيب ، فهم أضل من الأنعام ، والحيوانات ، والحشرات ، لهم قلوب ، وعقول، وأعين ، وآذان ، ولكن لا يفقهون ، ولا يعقلون ، ولا يبصرون ، ولا يسمعون ، ولا يدركون ، ولا يتدبرون … يعبدون الهوى وما تمليه عليهم أنفسهم ويطيعونها ، ويتجاهلون الإيمان بالغيب والتصديق والاقتناع به ، رغم حجة الوحي والسنة النبوية ، وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول : [ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولائك كالأنعام بل هم أضل أولائك هم الغافلون . ] ( سورة الأعراف آية 179 ) وقوله : [ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ] (سورة الفرقان آية 44 ) . يقول سيد قطب رحمه الله في هذا المعنى : ( الإيمان بالغيب هو العتبة التي يتجاوزها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه . إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز المحدود الذي تدركه الحواس أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطقية في كيان هذا الوجود وفي إحساسه بالكون وما وراءه من قوة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ، فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كم يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهيته وبصيرته ) (في ظلال القرآن 139 سيد قطب دار الشروق 2003 ) .
إن جهنم وأوصافها الدقيقة ، وصورها المهولة ، وسكانها ، وخزنتها ، وما أعده الله سبحانه وتعالى فيها من أنواع العذاب للكافرين ، ولمن عصاه من الظالمين لأنفسهم ولإخوانهم المومنين والناس أجمعين ، هو من علم الغيب أخبرنا عنه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وأي تجاوز لهما في معرفة الغيب ، هو افتراء وكذب على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم . لأنه لا يعلم الغيب إلا الله ، وكل من ادعى ذلك فهو كذاب ، دجال ، ساحر ، أو نصاب يستغفل العقول .
إن جهنم من علم الغيب ألتوقيفي ، جاءتنا أخبارها عن طريق القرآن الكريم والسنة الشريفة ، وهي على حسب فهمي لما ورد في الأخبار والنصوص ، ليست نارا فقط ، بل هي كون من العذاب الأبدي الغيبي ، يتكون من عناصر حياة العذاب وحياة الضنك . فيها ألوان من الطعام والشراب واللباس والسكن … ولكنه :
طعام لا يشبع ولا يغني من الجوع ، فهو زقوم يغلي في البطون : [ إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ] ( سورة الدخان من آية 43 إلى 48) [ ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالؤون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين ] ( سورة الواقعة آية 51إلى 56 ) .
وضريع شائك لا تقترب منه ولا تذوقه حتى الإبل والأنعام المعتادة على أكل الأشواك ، لمرارته ، وحرارته ، ونتانته وخبثه ، لا نفع فيه ولا غذاء لا تقوى ولا تبنى به الأجسام ولا يدفع عنها آلام الجوع : [ وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ] ( الغاشية آية 6ـ 7 ؟ ) .
وغساق وهو إفرازات وصديد وقيح يسيل من جلود وأجسام أهل النار نتيجة الشي والاحتراق والاعتصار : [ هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج ] (سورة ص آية 57 ـ 58 ) .
وغسلين وهو الأوساخ والقيح والصديد الذي تفرزه أجساد أهل النار من فرط العذاب : [ ولا طعام إلا من غسلين لا ياكله إلا الخاطؤون ] ( سورة الحاقة آية 36 ـ 37 ) . وهناك أنواع أخرى من الطعام الذي يمزق الحلقوم ويقطعه ويتسبب في الألم والكرب والحزن والضيق الشديد : [ … وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ] ( سورة المزمل آية 13 ) .
وشراب لا يروي الظمأ (شرب الهيم ) ، بل هو حميم يشوي الوجوه ، قبل وصوله للأفواه ، ويقطع الأمعاء ، وصديد وقيح وعفن… [ … وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بيس الشراب وساءت مرتفقا ] ( سورة الكهف آية 29 ) . [ … كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ] ( سورة محمد آية 15 ) . [ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ] ( سورة إبراهيم آية 16 ) .
ولباس لا يقي حرا ، ولا بردا ، ولا زمهريرا . بل هي ثياب من قطران وحديد ونار تزيد عذابا وألما . [ … فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطون والجلود ] ( سورة الحج آية 19) . [ هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم ] ( سورة الحج آية 19 ـ 20 ) . [ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوهم النار ] ( سورة إبراهيم آية 49 ـ 50 ) .
غطاؤهم وفراشهم لا لين فيه ولا هو مريح ، بل هو عبارة عن ظلل من النار يلتحفونها ويتغطون بها وتحيط بهم من كل جانب : [ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين ] الأعراف آية 41 ) .
سكناهم أو مكان سجنهم ، هو فضاء أسود مظلم لا ضوء فيه ولا لهب ، مكان ضيق يلقون فيه إلقاء ، وقد قرنت أيديهم إلى أرجلهم بالقيود والسلاسل ، وتبخر كل أمل في النجاة فراحوا يدعون على أنفسهم بالهلاك ، ويتمنونه كمنفذ للنجاة والتخلص من العذاب ، ويأتيهم الجواب ساخرا منهم . لا تدعوا هلاكا واحد ، فهو لا يكفي بل ادعوا هلاكا كثيرا متعددا : [ … وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ] ( سورة الفرقان آية 13 ) . فهو مكان محكم الإغلاق محاط بسرادق من نار : [ عليهم نار موصدة ] ( سورة البلد آية 20 ) [ إنها عليهم موصدة في عمد ممددة ] ( سورة الهمزة آية 8 ـ9 ) ) . هواؤه سموم شديد الحرارة وماؤه حميم يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء ، وظله من يحموم أي دخان كثيف خانق لا بارد ولا كريم : [ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ] ( سورة الحاقة من آية 41 إلى 44 ) . لها سبعة أبواب لا يختلف الأمر ، إن كانت مداخل وطرق أم طبقات أم دركات . [ وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ] ( سورة الحجر آية 43 ـ 44 )
Aucun commentaire