الوطن مَلِكُ المَلِك
رمضان مصباح الإدريسي
ماذا يعني الوطن اليوم؟
يستمد السؤال مشروعيته من قناعة ترى في جمود المفهوم الذي يُقترح للوطن نوعا من التجني على الدينامية المفروضة في المواطنة؛استجابة لمختلف أشكال التحولات التاريخية والمجتمعية والقيمية.
إن الوطن الذي أصبحنا عليه غداة الاستقلال ،وتمثلناه – بفعل خطاب طوباوي للحركة الوطنية- حديقة فيحاء شاسعة تسع الجميع، وعيونا للعسل لا كدر فيها،هو غير الوطن في سنوات الرصاص ؛حينما طَرَدَ نا الخريفُ من الحديقة ولم يسمح لنا حتى بالبكاء مع الأوراق الذابلة،وتتبع السواقي الشاردة والحزينة.
وهو غير الوطن الذي هب إلى جنوبه،شاكي المسيرة، حينما شعر أن فتنة الجغرافية – والجغرافية أنثى- بدأت تغري سُمَّار الليل بكل فج عميق، في انتظار قُمَيْر تهوى غُيوبهُ ،لتنقض على تضاريس الجسد ذات الغنج والدلال.
وهو غير الوطن التوافقي، الذي ولد مع ميلاد الثقة بين المرحوم الحسن الثاني وشيخ اليسار الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي ،متعه الله بالصحة ؛وثالثهما المصحف الكريم الذي ضمن للجميع الأملَ في العودة، من جديد، إلى الحديقة في رِكاب الربيع.
وهو غير الوطن المُبايع لملكية شابة ،بايعتْ بدورها الوطن – بمفهوم جديد- مَلِكا عليها ،يعلو ولا يعلى عليه.
واليوم نعيش وطنا –وليس فقط في وطن- يشبه بذلة رجال الإطفاء التي لا تحترق بالنار،مادامت متينة الألياف سالمة الكيمياء .
نعيش وطنا أفلست حوله أوطان شقيقة عديدة؛منذ أن اختار البوعزيزي – وهو صغير لكن بأمر كبير- أن يكون وقودا للنار ، على أن يكون رمادا للاستبداد. في لحظة- وعلى وقع صفعة،أو قافية من قوافي الطغيان – اختُزل الوطن كله في وهج مشتعل ليحدث « البينغ بونغ » العربي الكبير ، وليس الربيع ، ويتشظى ديوان الحماسة العربية هذا؛وقد كنا نستمد منه –رغم وهنه الحضاري- الكثير من الطمأنينة.وتَفَرَّق القومُ والقِمم ،التي على البال، طرائق قِددا.
في هذا الوطن الذي نعيشه اليوم تتفاعل كل الأوطان التي عَدَّدت ،والتي انفردنا ببنائها باعتبارنا مغاربة بسيادة كاملة وان لم نكن متفقين على تصور واحد للوطن الأمثل.
لم نكن متفقين سياسيا ونحن نمضي جنوبا لتمنيع صحرائنا؛لكن الولع بخريطة كاملة للوطن ،غير منقوصة ،صار هواءنا الذي نحيا به ، وكنا ، ولانزال على أتم الاستعداد لكي لا نُسَلِّم فيها إلا حاملة لأجسادنا ،مضمخة بدمائنا إلى آخر مغربي .بل وتنهض حتى أشباحنا للدفاع عنها.
أستعيد هذا الدرس اليوم لأقترح مفهوما راهنيا للوطن : مفهوم الوطن البيضة؛ نافرا من مفهوم الوطن القابل للاشتعال.
ما دمنا نملك جميعا هذه البيضة ،ولا أحد يسلم لغيره بحملها ،فلم يبق إلا أن نستعيد فتوى الصادق الأمين وهو يشير –قبل البعثة بكثير- على بطون قريش المتنافسة على حمل الحجر الأسعد؛أن ضعوه في ثوب، ولكل بطن ما والاه منه ،هكذا تشتركون في فضل رفعه الى موضعه. ما أروعها من فتوى منبئة بما سيكون عليه أمر القوم من أُلفة وتآلف بعد الواقعة بسنين عديدة ؛وبينهم،وبين يديهم، بيضة الإسلام .
الوطن البيضة:
نعيشه و يجب أن نستمد من هشاشته –بفعل الظروف الإقليمية المضطربة التي قد تفضي الى فشل و تجزؤ العديد من الدول العربية – صلابة مُواطِنِيَّة خاصة،وكثيرا من الحذر ،يقينا أي زلل يُعَرِّض حملنا الثمين للكسر.
لم نعد اليوم في سَعة من أمرنا حتى نستعيد طوباوية الحركة الوطنية ؛فهي لم تكن مؤسسة إلا على الفرحة الكبرى ؛ولم يتم الانتباه إلى اكراهات البناء الدولتي ،وخصوصا أشكال الاستعمار الجديدة ، التي لم تطلق يدنا لا في بناء الديمقراطية الحق، ولا في إرساء اقتصاد سيادي وغير مرتبط.
لم تعد الشروط التي أثمرت سنوات رصاص بغيضة قائمة –كلا أو بعضا- لدى أي طرف ،عدا التاريخ؛ومن هنا يجب أن يُثمر إفضاءُ القلوب الى بعضها البعض ؛واطمئنان الصولة والصولجان الى أمان مستحق ،عرفت ملكية محمد السادس كيف تبنيه ،ليس كأسوار مخزنية وإنما حبا وثقة في نفوس المواطنين؛وهذا لعمري أقوى بناء؛ يجب أن يثمرا ميثاقا غليظا يقضي باللاعودة أبدا الى الوراء من طرف رعايا الوطن كلهم ،ومنهم الملك.
لا نكوص عن حريات جماعية وفردية، منتزعة انتزاعا من طرف كل القوى الحية والمخلصة ،وعلى رأسها ملكية مناضلة. لا تراجع عن حقوق ولا تفريط في واجبات.
إن الدولة المغربية ،منظورا إليها من زاوية بعض الخطابات السياسية المنحطة- حتى لا أقدح في الشعبوية المطلوبة ما صدقت- فقدت الكثير من « أناقتها » إن لم تكن هيبتها. ومن المؤسف جدا أن تتحول ثلة من السياسيين ،وعلى رأسهم رئيس الحكومة ، الى مدرسة للمشاغبين أنست المواطنين في كل تراث الضحك المغربي التقليدي ورجالاته لتستبد بالركح كاملا .
حتى الأُسر المحافظة تخجل اليوم من الجلوس أمام التلفزة ؛خصوصا أثناء التغطية البرلمانية ؛لأنها لا تأمن قاذورات المعاجم المستعملة , ولا أي تحرش،حتى جسدي، سيصيب مواطَنَتَها وبراءة أطفالها. ولعل ماحدث للبروفيسور الوردي – الطبيب المقتدر وسط أمراض قطاع الصحة- يؤكد ما ذهبت اليه من أفول « أناقة الدولة ».
يعتز المواطنون بلغة الملك الراقية لكنهم يتأسفون ألا تكون مدرسة لسياسيينا ،وخصوصا لرئيس الحكومة الذي لا يترك فرصة دون أن يشدد على حسن تواصله مع الملك.لسانك يقول العكس تماما أيها الرئيس؛أنت مدرسة قائمة،في ما يعرف الجميع، لكن لا علاقة لها ،من قريب أو بعيد ،بنهج الملك التواصلي. هذا واقع لا يجامِل ولا يتحامل.
انك تحمل صفة رئيس الحكومة ،دستوريا ومؤسسيا ، ولا تملكها ملكا شخصيا ل »تتبورد » بها كما تشاء،وتقحم شخصك وحزبك في الرد على النقد السياسي الواجب الوجود.ان هذا النقد – وان ظهر أنه كان قعقعة فقط- هو الذي أوصلك الى الرئاسة ،فلماذا تنقلب عليه؟
وقفت هذه الوقفة ،مضطرا ،لأن الكثير من تصرفات الرئيس ،وحتى قراراته،أو المنسوبة إليه، لا يبدو أنها تشتغل – في الوضع الإقليمي الذي ذكرت- وفق ما تقتضيه دبلوماسية الوطن البيضة.
ومفهوم الوطن البيضة لا يحتمل التدافع حتى بين الديكة ،فكيف به حينما تتدافع الفيلة السياسية،والتوجهات العنصرية المقيتة التي تبحث عن شرعيات بعمر آلاف السنين ،ونحن مطالبون ظرفيا على الأقل ببذل كل التاريخ وكل إمكانيات الحاضر للحفاظ على البيضة سالمة؟
لم يكن هذا الهوس الهوياتي واردا حتى والوطن- ولو في الورش فقط- في سعة من أمره ،وكل أشكال الترف الفكري مقبولة،فكيف نصبح اليوم ونمسي ،ونحن مُسَيَّجون بكل الفواجع العربية،على تطرف أمازيغي يحسب كل صيحة عليه ؛حتى لو تحدثت عن تكفير وقع منذ قرابة الخمسة قرون؟
و مسيجون بتباشير الفواجع العربية الأمازيغية لدى الجيران ،على شاكلة مآسي الهوتو والتوتسي.
ان الوطن البيضة بين يدي المغاربة قاطبة،وهم ملزمون- لعبور الأزمات- بأن يكونوا على قلب رجل واحد؛ولا يضر أن يكونوا بلغتين أو لغات .حتى الخلافات الأمازيغية الأمازيغية –ولن يفرض احد علينا السكوت عنها- يجب تأجيلها.
ويبقى التكفير الديني فضيحة لمقترفيه في المغرب ،لأنه ليس من ثقافتنا التي لا تزيد عن الدعوة بالهداية، مهما كان القول والفعل المقترفان ومستوى فهمهما. لا يمكن للوطن البيضة أن يقبل بسفراء الإرهاب لديه ،الذين ينتظرون بفارغ الصبر متى يطرد هرقل من مغارته الطنجية لتحل بها ساكنة طورا بورا.
إن الوطن حي يرزق،وهو للجميع ،في كل أحواله الهشة والصلبة، وحينما يموت فيه الفكر ،ويغتال فيه فلاسفته ومفكروه – أنى جنح بهم فكرهم- يتحول المواطنون الى أعجاز نخل ،لا هي بجذور مغذية، ولا هي بسعف باسق تشم به الهواء الطلق.
إن الدين حَمَّال أوجه ،وقدأشفقت حتى الجبال على نفسها من حمله؛فأوغلوا فيه برفق إن كنتم موغلين.
كما لهذا الدين ثوابت وشبكات جامعة فله هضبات وشرفات يطل منها على المستقبل، الذي يقتضي فهما جديدا لا يجب أن نثقل به على نصوص ،وسلف صالح لعصره، وليس لعصرنا بالضرورة.
ويبقى الوطن بيضة بين يدي الجميع….
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire