تدبير بنك العنف أصعب من تدبير بنك المغرب
تدبير بنك العنف أصعب من تدبير بنك المغرب
رمضان مصباح الإدريسي
أصل العنف الدولتي:
من مقومات الدولة الديمقراطية احتكار العنف،وتوظيفه –داخليا- في مواجهة عنف الأفراد والجماعات؛وخارجيا في مواجهة العدوان الأجنبي ضد السيادة على التراب الوطني.
ان استحالة تحقق الوضعية الطبيعية المثالية:أن يعيش الناس أحرارا بمنأى عن أي حكم أو قيد(حلم روسو) اعتبارا للذئبية اللصيقة بالإنسان في مواجهة أخيه الإنسان(هوبز) هي الحقيقة ،أو المُسَلَّمة،التي قدحت شرارة العقد الاجتماعي
الافتراضي الذي انبتت عليه الدولة ؛كما تطورت عبر العصور ،وصولا إلى ماهي عليه الآن في الديمقراطيات الغربية الراسخة، التي نهلت من فلسفة التنوير ،ومن الحراك الثوري الجماهيري ؛خصوصا في فرنسا.
وعليه فلولا العنف المتأصل في النفس البشرية ،والتفاوت في القدرة على ممارسته ،لما تنازل أحد لأحد من أجل قيام حكم عادل يحتكر العنف ،ولا يدفع به إلا لتحقيق أمن ورفاه الجميع.
اعتبارا لطوفان الحداثة ،كما بناها ،وفهمها، الغرب الديمقراطي, ونقلها المد الكولونيالي ،والتلاقح الثقافي، والضرورات الاقتصادية ،الى الأقطار العربية ؛فإننا أصبحنا لا نملك أن نحيد عن نموذج الدولة الغربية بكل مقوماتها؛ بما فيها العنف الذي يفسر نشوءها ،وتدبيره الذي لا تتحقق غاياتها إلا به.
الأمر هنا يتعلق بغايات الدولة الحديثة، وأهدافها، ولا يتعلق-إطلاقا- بهيبة الدولة التي أدلى بها رئيس الحكومة لتبرير العنف الممارس على المواطنين.
الهيبة تمتح من عنف آخر ،أصيل في الدولة الإسلامية التي ظلت قائمة ،بمقوماتها الذاتية،على علاتها الكثيرة، الى أن خالطتها الحداثة الغربية ؛مخالطة صدام أولا ،ثم اقتناع نسبي مع توالي التثاقف،دون الغاء تواصل الصدام لأسباب عديدة.
نعم إن الحاكمية لله تعالى ،في دولة الإسلام،بمعنى ألا عنف الا وفق الضوابط الشرعية ؛ولا اجتهاد للحاكم الا في إطار هذه المرجعية. هذه الحقيقة الدينية تخرجنا تماما من نظرية العقد الاجتماعي التي فسر بها الفلاسفة منشأ الدولة الغربية ؛لكننا لا نملك الا أن نعود الى افتراضاتها حينما تواجهنا حقيقة كون دولة الإسلام حديثة ،وكونها لم تنشأ من فراغ .
رغم سيادة القبيلة في الجزيرة العربية،قبل البعثة النبوية،فان جوار الإمبراطوريتين، الرومانية والفارسية ،لم يكن بدون تأثير على الوضعية السياسية فيها(المناذرة والغساسنة).
وفي حالة الدولة المغربية يختلف الأمر تماما عن الجزيرة العربية ،لخضوعها –ضمن الجغرافية القديمة- الى الغزاة الذين تعاقبوا على حكم الشمال الإفريقي.حتى القبائل المغربية لا يتم الحديث عنها بشكل واضح إلا بعد الفتح الإسلامي ؛أما قبله فيلفنا ظلام القرون،على حد عبارة « غوتيي » ،ولا نعثر إلا على أصول كبرى باهتة أمام حضور أشكال جنينية للدول الأمازيغية وقادتها الكبار(يوكرثن،ديهيا…)
لا يمكن أن نلغي التاريخ ونقول بدولة إسلامية حديثة؛عمرها ،فقط، أربعة عشر قرنا. ولا يمكن أن نلغي التاريخ ،مرة أخرى،ونقول ان الحكم ،في دولة الإسلام،ظل وفيا للضوابط الشرعية فقط .
ان أغلب النصوص الشرعية حمالة أوجه ،كما أن اتساع رقعة الدولة الإسلامية،وتنوع الشعوب التي دخلت تحت رايتها-طوعا أو كرها- كشف عن ضيق هذه النصوص ؛مما أوجب الاجتهاد ،في الفروع بصفة خاصة؛مما ولد تعدد المذاهب الفقهية؛وتباين مناهجها في استنباط الأحكام.
وعليه فلم يعدم الحكام المسلمون ،أبدا، مداخل للاستبداد والتسلط ،وبالتالي ممارسة العنف وفق الهوى ؛وصولا حتى إلى حماقات بعض الحكام الفاطميين .وغير بعيدة عنا دولة الرعب والقهر القذافية التي اشتغلت حتى دينيا.
حينما يتحدث اليوم رئيس الحكومة عن عنف الدولة ،الضروري لهيبتها،فإنما يلوي عنق العنف – كما توظفه الديمقراطيات الغربية، لتحقيق غايات واضحة لدولة كل المواطنين- ليقحم فيه عنفا تسلطيا تليدا ظل يظهر ويختفي ،في الدولة الإسلامية ،حسب مشيئة حكام لم يعدموا فقهاء يوقعون لهم على بياض ما يشبه صكوك الغفران.
أرتب على هذا العنصر النتيجة الآتية:
ان العنف الممارس حاليا من طرف الدولة ،في مواجهة مطالب واحتجاجات مشروعة لبعض المواطنين،وصولا الى سِباب مقذع ،و ضرب مبرح لممثل للأمة ،يتمتع بالحصانة ،حق مشروع لكنه ممارس بكيفية فظة حولته إلى عنف تسلطي يسعى لتحقيق هيبة الدولة ،دون التفات إلى شرعية المطالب؛ودون الأخذ بعين الاعتبار حتى أخطاء التدبير الحكومي أو المؤسسي.(التراجع عن محضر التوظيف المباشر،فواتير الماء والكهرباء…)
نحو تدبير أمثل لبنك العنف:
لقد بدا لي احتكار الدولة للعنف بمثابة احتكارها لتدبير المال العام من خلال مؤسسة بنك المغرب.
ان العنف بمثابة مال عام آخر ؛انه بنك موظفوه هم رجال القوة العمومية ،بكل تراتبيتهم،وصولا الى الوزير الآمر؛ وزبناؤه هم المواطنون،مهما تكن مواقعهم .هذا هو المفروض ،وان كان يبدوا أن الشريحة الواسعة المرشحة لخدمات هذا البنك -خلافا للأبناك المالية- هم الفقراء ،وذوو الحاجات التي تفرض عليهم الخروج إلى الشوارع للمطالبة بها. وبقدرما تكثر هذه الحاجات بقدرما يكثر احتياطي « العملة الصعبة » المرصودة لتغطيتها حينما يعجز المال العام عن الاستجابة لها.
ان قمة الهرم في بنك العنف-كما هو الشأن في بنك المال- تمتلك صلاحية واسعة ،منها إصدار الأوامر الفورية التي تواجه مباغتة العنف. يستطيع والي البنك أن يرفع الفيتو في وجه الحكومة حينما يشعر بأن قراراتها ستخل بالتوازنات المالية للدولة.وهذا بالضبط ما يستطيعه ،أيضا،الوزير المدبر لعنف الدولة ،حينما يشعر بخطر ما يداهم الأمن العام.
يبقى أن تدبير المال تضبطه قوانين صريحة وصارمة ،أما تدبير العنف فيخضع للقانون فقط،في الدول الراسخة في الديمقراطية.أما في دول « البين بين » فتتعزز الترسانة القانونية بحسابات سياسوية مستعصية أحيانا عن التفسير.
من هنا صعوبة تدبير العنف في المغرب ؛فرغم وجود ضوابط وضعتها الدولة ،بمساهمة المواطنين ،من خلال التصويت على الدستور ،ومن خلال النشاط التشريعي لممثليهم في البرلمان .هذه الضوابط تشتغل على مستويين: مستوى المواطن الذي مُكِّن،ولو في حدود،من قنوات لتصريف مطالبه ،بكيفية ديمقراطية سلمية حتى تصل إلى المسؤولين؛ومستوى الدولة التي تسهر على مدى الالتزام بهذه القنوات ؛حماية للأمن العام ،وللفضاء العمومي.
لتدبير محكم لاحتياطي العنف الذي تمتلكه الدولة ،لا بد من الأخذ بعين الاعتبار كون هذا الاحتياطي ملكا لجميع المواطنين لتحقيق أمنهم؛فهو ليس ملكا لرجل سلطة ،أو عون،يستقوي به على مواطنين عزل؛حتى تختلط الأمور فيبدوا وكأنه في جبهة والمواطنين في جبهة أخرى. الكل في جبهة واحدة هي الدولة.
ان أمور الدولة لن تكون أبدا ملكا لشخص واحد ؛وان علا شأنه في هرمها ،ليعتبر أنه الوحيد الموكول إليه الدفاع عنها . وحده يجسد الخير المطلق ،والآخرون الشر المطلق.
ومن هنا ضرورية تثقيف أفراد القوة العمومية ثقافة حقوقية ،تجتث من نفوسهم ثقافة أسرية ومجتمعية توجه سلوكهم ،وهم في مواجهة جموع المواطنين في حراكهم ؛سلميا كان أو عنيفا. لقد رأيت مرارا تدخلات أمنية عنيفة ولا حظت أن العصا التي بيد الشرطي لا تبدو عصا الدولة، بل عصا مغربي هائج يدافع عن ماله أو عرضه.تكاد لا تميز بين الوضعين.
قارن مع صورة المواطن المتظاهر في دول الغرب؛كيف تحرسه القوة العمومية ؛وكيف تحمله ،الهوينى، حينما يبدوا له أن يحتل موضعا غير مسموح له.
إنها ثقافة تدبير العنف العام الموكول إلى فئة من موظفي الدولة .يجب أن تزول أخلاق الغارة ،وطبائع الفروسية القديمة لتحل محلها ثقافة أخرى تزرع زرعا في معاهد التكوين.
غير بعيد عن هذه الصورة صورة تدبير حوادث السير : ما أن تقع الحادثة ،وتبقي على السائقين أحياء،حتى تنشأ صدامات كلامية ،قد تسمع فيها ما هو أقسى من الحادثة في حد ذاتها. ان تدبير الحوادث بهذه الكيفية-خصوصا في مدينة وجدة- لا يترك مجالا لمدونة السير حتى تشتغل وفق أهداف المشرع.
وفي ما يخص البرلماني الإدريسي ،قد نفهم أن يكون اقتحم على القوة العامة »خلوتها » وهي تُعْمِل رصيد العنف العام فأصابه سهم منه؛لكنني شخصيا لا أفهم الكلام النابي الذي تلفظ به باشا الرباط في حقه.حاشا أن يكون هذا من العنف العام الذي أوكلت إليه الدولة تدبيره.انه يصدر عن عنف داخلي فيه لأنه ابن هذا المجتمع الذي لم تنضج فيه ،بعد،المؤسسات والحقوق والواجبات. لم يتصرف الرجل كباشا إزاء برلماني ،أو مجرد مواطن عادي،بل كشخص في مواجهة متطفل على أموره الخاصة.وقل مثل هذا بالنسبة للقائد المعزول بمدينة تمارة.
إن التدبير السيء لرصيد العنف يعقد الأمور أكثر لأنه يقدم للمواطن مثالا سيئا يجعله –وهو يمارس حقوقه المشروعة-
يشعر بالرعب ،لأنه يتوقع أن يرمي إليه كل شارع بكتيبة أمنية تغير عليه.وقد تتأزم الحالة النفسية فتتحول الى عنف مواطني استباقي يأتي على الأخضر واليابس. إن فحص أشرطة العنف والعنف المضاد،في المغرب وغيره ،وهي متوفرة على الشبكة،تؤكد ما أذهب إليه. إن ألحراكي الذي يشعر أن القوة العمومية موجودة لحمايته من الآخر المحتمل الذي يخالفه الرأي، يُستبعد أن يرفع ،عضليا، سقف مطالبه ،مخربا الملك الخاص أو العام.
إن التدبير الأمثل للعنف هو ألا يقع أصلا،بتجفيف كل منابعه؛وما دام هذا من قبيل المستحيل لحيوية المواطنين،في دولة تنحو نحو الديمقراطية ،ولتجدد المطالب وضيق ذات اليد ؛فان اضطرار الدولة إلى مواجهة العنف بالعنف يجب أن يتم وفق ضوابط ،وبرجال متشبعين بثقافة الحقوق والواجبات.رجال يخدمون الدولة ولا يملكونها.
وللأحزاب دور في حسن تدبير العنف:
ان ما يقع في الشارع العام لا يفسر فقط بعصا القوة العمومية بل بعصي أخرى سبق أن ضربت بها الأحزاب.عصي الإقصاء من ممارسة الشأن السياسي بكل ديمقراطية وشفافية ؛كفيلتين بإغراء الشباب ومصالحته مع الشأن العام
خصوصا في مواجهات إغراءات عدة توفرها الملتيميديا.
وللمنهاج التربوي عِصيُّه أيضا التي يضرب بها، في العمق الطفولي، حينما لا يُبْني بِتَرَو ،ومراعاة لمتطلبات التنمية والحداثة عموما. إن الطفل أب الرجل كما يقال.
حينما تمارس الأحزاب التأطير الحزبي الذي يخدم المصالح العليا للدولة ,لتقويتها من أجل الاستجابة لحقوق الجميع
ومطالبهم المشروعة ؛وحينما يشعر الشباب أن مشاركتهم في تدبير الشأن العام تحتكم ،فقط،إلى مؤهلاتهم ونشاطهم النضالي ،وليس الى دفاتر الحالة المدنية ؛فإنهم سيقبلون على السياسة الحزبية ؛و سيتشبعون بالروح الديمقراطية
التي تفتح أمامهم سبلا عديدة للتعبير عن حاجياتهم.
ان من الدروس الرائعة لحركة عشرين فبراير،وللربيع العربي ،عموما؛أننا اكتشفنا جميعا،بفضلها، مدى ابتعاد الأحزاب عن هموم المواطنين .ما كان للفساد أن يكون أصلا ،لو تذكرت أحزابنا أنها لا تشتغل للانتخابات فقط بل للوطن والدولة.
ان الجانب الموكول الى الأحزاب ،في تدبير بنك العنف العام، هو بمثابة التلقيح ضد العنف؛ولا يعني هذا أبدا حمل الشباب على النكوص والاستكانة؛إذ لاخير في دولة تجثم على صدور شبابها، وتخنق أنفاسهم.كأنها ،بهذا، تربيهم على الجبن.
لولا شجاعة وإقدام شباب الحركة الوطنية ما كنا ننعم اليوم باستقلال مستحق نضالا،وليس هبة.وفي تربية الشعوب
يجب ألا يستثنى أبدا تربيتها على مواجهة المكاره،كيفما كانت.لا نعرف ما يحبل به المستقبل؛وقد يتداعى علينا العدو الخارجي من جديد ،فهل نستسلم استسلام قصعة الطعام لأكلتها؟
إن التلقيح يقي من المرض المحتمل ،و كذلك التأطير التربوي، الحزبي،وحتى الجمعوي، المخلص،خدمة للصالح العام .إن التأطير القريب من المواطن،حيثما يكون،هو الضامن لتصريف المطالب المشروعة، بالكيفية التي يؤطرها قانون واضح يلزم الجميع.
وعليه فحينما تتقاعس الأحزاب- مهما تكن الدواعي- يتدبر المواطنون أمورهم المطلبية بكل العنف الثاوي الذي رباه ،في نفوسهم،عنف سابق ؛تربوي ،حزبي أو دولتي.
وحينما يشب العنف عن الطوق تعجم الدولة عيدانها وتضرب، مقدمة نماذج تحتذي من طرف المواطنين ،لاحقا.
دائرة جهنمية مغلقة تقع علينا جميعا مسؤولية الخروج منها إلى الأفق الرحب للمواطن المسؤول والدولة الراعية؛وهي ليست ضاربة بالضرورة.
ألم أقل لكم إن تدبير بنك العنف أصعب من تدبير بنك المغرب؟
Ramdane3@gmail.com
Ramdane3.ahlablog.com
2 Comments
Bel article, à ta juste hauteur (toujours espérée) mon frère,
juste dénonciation de l’absolutisme idiot, stérile caduc etc ; au nom de la première symbolique du Saint Coran, celle de « I9ra’a »…que « nous » avons -malheureusement, laissé aux « autres »…pour en faire les B 52 qui nous bombardent ou les fusils d’assaut que nous ne savons pas fabriquer mais que nous savons acheter -chez l' »ennemi »- pour la tourner contre le supposé « positionné »dans la même tranchée… Nous sommes dans toutes les banques…maais en tant que débiteurs…de…
Chapeau bas, frère Ramdane
Bel article, à ta juste hauteur (toujours espérée) mon frère, juste dénonciation de l’absolutisme idiot, stérile caduc etc ; au nom de la première symbolique du Saint Coran, celle de « I9ra’a »…que « nous » avons -malheureusement, laissé aux « autres »…pour en faire les B 52 qui nous bombardent ou les fusils d’assaut que nous ne savons pas fabriquer mais que nous savons acheter -chez l' »ennemi »- pour la tourner contre le supposé « positionné »dans la même tranchée… Nous sommes dans toutes les banques…maais en tant que débiteurs…de… Chapeau bas, frère Ramdane