عام من الوحشية..! « عام من الألم..!! »
المختار أعويدي
في ذكرى انطلاق طوفان الاقصى المجيد، ضد المحتل الوحشي البغيض، استعير من المفكر والأديب اللبناني الكبير إلياس خوري رحمه الله، عبارته الحزينة المشحونة بالأوجاع والآهات والزفرات « عام من الألم »، التي استعمَلها عنوانا لمقالة لخص فيها معاناته الكبيرة مع المرض، قبل رحيله عن دنيا الناس. أستعيرها لأسقطها على حال غزة الجريحة الطريدة الذبيحة، التي استكملت اليوم عاما كاملا، تكبدت خلاله وتحملت ما لا يطاق، من ذبح وتقتيل وتجويع وتشريد وترهيب وترعيب وإذلال وهدم ونسف وتدمير صهيوني وحشي أعمى.. تكبدت خلاله ما يكفي من عمليات تطهير عرقي وإبادة بربرية عمياء. ما يكفي من خذلان وتواطؤ وخيانة وغدر بغيض حقير. أمام موت الضمير البشري للمجتمع الدولي، وتفرج العالم « المتحضر » المنافق، لا بل دعمه وتمويله وتسليحه وتشجيعه. وتواطؤ الإخوان في الإنتماء والعقيدة، وتحريضهم وخذلانهم ونكرانهم، وتغول العدو وبطشه ووحشيته وجبروته..
عام مضى على انفلات الوحشية الهمجية الصهيونية من عقالها، كي تنفذ مسلسل مذابح ومجازر رهيبة غير مسبوقة، بكل وحشية وعنصرية وحقد بالغ فاقع. دونما تمييز في ذلك بين البشر والحجر والشجر.
عام مضى على انطلاق السعار الوحشي الصهيوني، الذي لما يرتوي بعد من شلال الدماء التي سفكها، والجثث والأشلاء التي مزقها، وطوفان الآلام والأوجاع التي أحدثها، وحشود اليتامى والأيامى، والأرامل، والثكالى، والتائهين، والمعطوبين، والمشردين، والمعاقين، والجائعين، والمرضى، والمصدومين والموجوعين، والمفجوعين.. التي خلفها.
عام مضى على انطلاق مهرجان القتل والذبح والتجويع والترويع والتشريد والهدم والردم والتدمير والقصف والنسف، وكل ما لا يخطر من جرائم وحشية بربرية على بال. ولما يتوقف عداد هذه الفظاعات المرتكبة، والمجازر المقترفة، ومواكب الشهداء المتلاحقة، وحشود المشردين واللاجئين التائهين الضائعين بعد.
عام مضى على انطلاق مسلسل إبادة شعب كامل. وإزهاق أرواح عشرات الآلاف من أبنائه بكل وحشية وشراسة. ومن نجا من شلال الدم المراق هذا منهم، فهو إما مفقود، أو جريح، أو مبتور، أو معطوب، أو شريد، أو طريد، أو مفجوع، أو تائه، أو لاجئ، أو مريض، أو جائع، أو مصدوم، أو مفجوع، أو معاق، أو محتضر، أو محطم النفسية مهشم المعنويات.
عام مضى على هدم وردم ونسف وتدمير كل القطاع على رؤوس ساكنيه. تدميره بالكامل، بمساكنه وأبراجه ومدارسه ومستشفياته ومساجده وجامعاته ومعامله ومزارعه وموانئه وبنياته التحتية ومؤسساته المدنية المختلفة. حتى قد أصبح هذا الجزء الرائع غزة، من الوطن الجميل البهي فلسطين، عبارة عن مطرح كبير لجبال من حطام وخراب ودمار، وأكوام من أنقاض هدمٍ وردمٍ وأطلال، وبقايا مخلفات وحاجيات وأشياء وآثار وذكريات.. لم تشفع لأي مكان قدسيته، أو حرمته، أو مهابته، أو تاريخه، أو مدنيته، أو وظيفته الإنسانية..
عام كامل من مسلسل تقتيل وترويع وترعيب وترهيب شعب آمن مطمئن مستكين، وتحويله إلى شتات من اللاجئين المشردين المصدومين التائهين الضائعين. الذين يعانون صنوف الويلات والعاهات البدنية والنفسية والعقلية، المستعصي علاجها وشفاؤها وبلسمتها. جراء ما تكبدوه من أهوال وفواجع ماكينة الحرب الصهيونية البربرية. التي بالإضافة إلى ما خلفته من عشرات آلاف القتلى والجرحى والمعطوبين والمشردين واللاجئين.. فهي قد دمرت كل أثر لمقومات الحياة، ولما تنتهي بعد من استكمال جرائمها هذه.. عاهات ستظل تحفر وتحفر وتحفر في الضمير والوجدان الفلسطيني لأجيال وأجيال.
عام مضى وانتهى بخريفه وشتائه وربيعه وصيفه، لكن حمم النار والموت والإبادة المتساقطة على غزة في كل وقت وحين لم تنتهي ولم تنقضي. عام مضى وانقضى بأفراحه وأقراحه، وأعياده ومآسيه. لكن الوجع الفلسطيني في غزة لا زال هو هو، لم ينتهي ولم ينقضي. عام مضى وانتهى بتفاصيله وتلاوينه بمده وجزره. لكن قوافل الشهداء ومواكب الجثث وشلال الدم المراق المتدفق، يأبى إلا أن يسقي ويروي كل شبر وحبة رمل من أرض القطاع.
عام مضى على ما أحدثته أهوال الحرب الصهيونية الظالمة المسعورة، من قصص حزينة مأساوية عصية على التحمل، من قبيل إبادة عائلات واسر بكامل أفرادها. أو ميلاد واستشهاد رضع تحت حمم القصف الهمجية. أو حدوث ولادات مبتسرة موجعة تحت نيران وحمم القصف الوحشي الأعمى. أو ضياع وتيهان وتشرد العديد من الأيتام الذين فقدوا جميع أفراد أسرهم ومعيليهم.. وكثيرة كثيرة هي الحكايات الإنسانية المروعة الحزينة الكئيبة، التي تنفطر لها القلوب.. سيكشف عنها انقشاع غبار الحرب لاحقا، ستظل تمثل عبئا لا يطاق على مستقبل غزة الجريحة الذبيحة..
عام مضى وانقضى لكن سرطان الخذلان والتطبيع والنكران والطعن، لا ينفك يتعاظم ويتمادى. ليحصد بالإضافة إلى الأنظمة المطبعة المتقاعسة، جحافل من المهرولين « المثقفين » و »الصحفيين » و »الجامعيين » و »الفاعلين في مختلف جبهات الفعل، الذين خرج كثير منهم، بكل وقاحة وصفاقة وقلة حياء، لإعلان عدائهم الحاقد البغيض لمقاومة الإحتلال وإجرامه الوحشي، وإشهار هرولتهم وتصهينهم، وانخراطهم بكل سفالة في تسويق سردياته وأوهامه.
عام مضى على انكشاف الوجه القبيح البشع لبروباغندا الغرب الحقيرة المقيتة، القائمة على التغني بالقيم والحقوق الفارغة والديموقراطية الجوفاء. الوجه الذي انكشفت أنيابه، وتجلت شراسته ووحشيته بكل قبح وبذاءة.
عام مضى على خيبات الأمل المتعاظمة في المنظمات والمؤسسات والهيآت الدولية المختلفة، التي أكدت بما لا يدع مجالا للشك، خدمتها وتصريفها للأجندات الصهيونية جهارا نهارا..
عام طويل حزين مضى، تعرضت فيه غزة لانتهاك كل القوانين الإنسانية والخطوط الحمراء للحرب. واستعمال أنواع الأسلحة المحرمة دوليا. عام طويل من الظلم والقهر والجبروت، واجهت فيه غزة وحيدة فريدة كل صنوف الإنتهاكات والفظائع الوحشية الصهيونية، المدعومة من طرف الغرب. عام كامل مضى تساقطت خلاله كل القيم والمبادئ والحقوق الفارغة، التي ظل « متحضرو » هذا العالم القبيح يسوقونها بكثير من الزهو والغرور والكٍبر والنفاق والإزدواجية. تساقطت كل سخافات « الأخوة العربية » الكاذبة، التي اشتد دونها سباق الهرولة والتطبيع والخيانة والتواطؤ. تساقطت كل ادعاءات « التضامن الإسلامي » الفارغة، التي حل محلها الخنوع والخضوع والإستسلام والإنهزام. تساقطت كل خطابات السلام المزيفة من على مختلف منابر الكذب والخداع والنفاق الدولية. تساقطت وتداعت آدمية وإنسانية هذا المخلوق البشري الحقير التافه المدجج بالشرور، الذي يعمر الأرض.
عام كامل من الآلام والخيبات استبدت بي، طالما ظل مسلسل الهمجية الصهيونية مستغرقا في جرائمه التي لا تنتهي ولا تنقضي إلا لكي تبدأ من جديد. عام كامل من الأوجاع ظلت تنهش أحشائي وأعماقي، طالما ظل هذا العالم الحقير مستغرقا في تفرجه وتواطئه وحضيضه ووحشيته..
آلام وأوجاع ليست من قبيل آلام المرض وأوجاعه التي فتكت بأديبنا الكبير إلياس خوري وكتمت أنفاسه، لكنها آلام من نوع آخر وصنف آخر.. آلام أفظع وأبشع وأوجع، مبعثها حرقة الشعور والإحساس الموجع بالقهر والظلم والتسلط والتغول، أمام مخلوقات متوحشة لا ترحم ولا تألم، في عالم متكلس الضمير، فاقد الإحساس، ظالم قاسي، مجردا من كل إنسانية مبتورا من كل آدمية..
آلام وأوجاع مبعثها وجود شعب يذبح ويباد على رؤوس الأشهاد. أمام مرأى ومسمع الجميع، غربا وشرقا وشمالا وجنوبا. على مرأى ومسمع كل المتشدقين بحقوق الإنسان والمسوقين للمبادئ والقيم الإنسانية الكاذبة. على مرأى ومسمع وتفرج المهرولين العرب، الممعنين في خذلانهم وتواطئهم وهوانهم،
آلام وأوجاع وأحزان مبعثها هذا الطوفان من الدم المسفوك بلا هوادة ولا رادع قانوني أو أخلاقي أو ديني أو إنساني، في حق شعب تعرض لأكبر خداع وسرقة ومظلمة في التاريخ. شعب تقاسم هذا العالم الظالم الوحشي بغربه وشرقه، مسؤولية ما لحقه من ويلات ومظالم ومآسي.. هذا العالم البربري الغربي منه على وجه التحديد، الذي خطط ودبر ومول ونفذ ودعم مخطط ومشروع اقتلاعه من أرضه ووطنه، وتشريده وتشتيته في المنافي الدنية والقصية، وزرع كيان وحشي غاصب بديلا فيها، قائم على اقتراف المجازر المروعة، في حق أبنائه. دشن استيلاءه على الأرض الفلسطينية بمسلسل مذابح فظيعة رهيبة لا تنسى (كفر قاسم – دير ياسين..). هذا العالم الغربي الظالم، الذي رغم كونه ظل شاهدا طوال مدة الإقتلاع والتهجير والتشريد المأساوية، التي شارفت على الثمانية عقود، شاهدا على كل ما ارتكب في حق هذا الشعب الشريد الطريد، من مجازر ومذابح وانتهاكات يندى لها الجبين، لا زال ممعنا في وحشيته وبربريته تجاه هذا الشعب المنكوب. وها هو اليوم لا يخجل ولا تعتريه أية أزمة أو وخزة ضمير تاريخية، وهو يشجع ويحرض ويدعم ويساعد ويسلح آلة الفتك والقتل الصهيونية الوحشية، بكل ما أوتي من وقاحة وجبروت عسكري، وتمكن دبلوماسي، وسطوة سياسية كبيرة. لا يخجل من تقديم السلاح الفتاك لنسف أجساد غضة طرية لأطفال ورضع القطاع المنكوب. ويوفر الغطاء والتبرير لمذابح ومجازر هذا الكيان الوحشي، في مختلف المنتديات العالمية المتواطئة (الأمم المتحدة….).
آلام وأوجاع مبعثها هذا الإنقسام والتشرذم والتشتت والتشظي العربي والإسلامي الفظيع الهائل، تجاه ما يرتكب من مذابح ومجازر وحشية في حق الشعبين الفلسطيني واللبناني. ولا يتعلق الأمر هنا بالمستوى السياسي الرسمي، فالتقاعس والخذلان وحتى الخيانة والتواطؤ على هذا المستوى، قد اعتدناه وألفناه ويئسنا منه من زمان. فلا يخفى أن الحكام العرب قد أصبحوا بالنسبة للهرولة والتطبيع والإنبطاح للصهاينة على قلب رجل واحد. حتى قد أصبح من نافلة القول المجازفة بوصف جامعة الهوان العربية، بالجامعة العربية/الصهيونية. ولكن ما أصبح أشد إيلاما ووجعا ومدعاة للحزن والحسرة والأسى، هو هذا التشرذم الذي أصبح يقصم أيضا ظهر المستوى الشعبي غير الرسمي العربي والإسلامي، حيث يشتد التقاطب والتخندق والإصطفاف، الذي ينخرط فيه ويؤججه الكثير من المثقفين والصحفيين والجامعيين والفقهاء والدعاة. ما يؤدي إلى تفاقم الصراع والمواجهة والإنقسام الفظيع بين أبناء الصف الواحد والإنتماء الواحد والعقيدة الواحدة، بموازاة مع ما تقترفه يد الإجرام الصهيوني من مذابح ومجازر رهيبة.
انقسام وصراع كبير بشأن حق المقاومة، مقاومة الكيان الغاصب في غزة ولبنان وعموم الشرق الأوسط، تسعره النعرات المذهبية والطائفية والإيديلوجية والعقائدية والمنفعية، وحتى بدعة التصهين التي اجتاحت أوساط الكثير من المثقفين والصحفيين والجامعيين والفاعلين من المرتمين في أحضان الكيان الغاصب. المبررين لجرائمه المسترزقين من خدمة أجنداته ومخططاته الإجرامية.
آلام وأوجاع مبعثها هذا الحضيض الذي هوى إليه بني البشر، وهذا التردي والتدهور الشامل الذي شهدته قيمهم وأخلاقهم ومبادئهم وإنسانيتهم، حتى ينبروا إلى التفرج بكل دناءة وخساسة على شعب يتعرض للإبادة والتطهير العرقي بكل الأسلحة المحرمة دوليا، مضافا إليها أسلحة بالغة الوحشية والبربرية والفتك والسوء، هي أسلحة التجويع والتشريد والمنع من الدواء والغطاء والإستشفاء، والحرمان من أدنى شروط الكرامة البشرية.. يا للعار لهذا الدرك من التردي الذي بلغته الإنسانية..! فأي نوع من الوحوش البشرية هذه التي أصبحت تقاسمنها العيش على سطح هذه الأرض.!!
لم يكد عام المذابح والمجازر الصهيونية في غزة هذا يمضي وينقضي، حتى قد جاء الدور على لبنان الجريح، الذي يتكبد اليوم بدوره نصيبه من الوحشية والهمجية الصهيونية العمياء، الممعنة في تدميره وتقتيل شعبه بلا هوادة. أمام حقارة مجتمع دولي متآمر. ويظل موقف التفرج المخزي لهذا العالم الظالم هو هو سيد الموقف، لا يتزحزح ولا يتحرك.
أيها العالم المتفرج الوغد المنحط الحقير..
أيها « المتحضرون » القتلة السفلة الهمج في الغرب والشرق..
أيها العرب المهرولون الخونة الأنذال..
أيها المسلمون الجبناء الأرذال…
يا كل المتقاعسين الجبناء عن نصرة شعوب مستضعفة مقهورة.. أليس فيكم نبض ضمير إنساني حي. ألم يتبقى فيكم شيء من آدميتكم المتداعية وإنسانيتكم المتآكلة..!
أيها البشر الأنذال الأرذال، كونوا أقرب إلى مستوى آدميين، وأوقفوا شلال الدماء المسفوكة في غزة ولبنان..!!
Aucun commentaire