اذا أردت البيض فاعتن بالدجاجة
ذ. محمود بودور
هذه مقولة لرجل الأعمال الياباني الناجح كازوو إيناموري kazuo Inamori والتي تعكس فلسفته في إدارة أعماله وكيف أنه استطاع من خلال هذه المقاربة مضاعفة أرباحه عن طريق سره العجيب بالاعتناء بعمال شركته وزبنائها حتى أصبحوا شركاء معه في الأرباح وليس عمالا فقط.
الدجاجة هي العمال طبعا وسر النجاح هو الاعتناء بالعمال والزبناء أو العملاء وليس بأصحاب رؤوس الأموال المساهمبن في الشركة أو زيادة رواتب الرؤساء والمدراء والمراقبين على حساب الشغيلة وبالتالي زيادة التحاقد بين الرئيس والمرؤوس وسيادة جو من التباغض داخل الشركة أو المقاولة.
المتخصصون في مجال الدواجن يعرفون جيدا أن المحصول الوافر من البيض يعتمد على مدى الاهتمام بالدجاج البياض تغذية ونظافة ومحيطا وحتى من الناحية النفسية لهذه الهدية الربانية التي كانت ولا زالت محبوبة الفقراء والطلبة والعلماء.
هذه الفلسفة يمكن اعتمادها ليس فقط في الاقتصاد وإنما كمقاربة أيضا نحو النجاح في مختلف المجالات .
ألا يمكن اعتمادها كأرضية لإصلاح منظومتنا التعليمية التي تشهد مخاضا عسيرا هذه الأيام؟ ننتظر بشغف رؤية مولودها. أتراه يولد كاملا جميل المنظر يفرح قلوبنا ويرجع مئات الآلاف من التلاميذ إلى صفوف الدراسة؟ أم يا تراه يولد مشوها قبيح المنظر يزيد الأوضاع تأزما لا قدر الله؟
لقد استطاع صاحب الأعمال الياباني المذكور أن يتجنب بفلسفته ظاهرة نفسية خطيرة يصل إليها العامل بعد طول عمله حين يفقد الرغبة في العمل بسبب غياب التحفيز المادي والمعنوي فيصبح يحضر لمكان عمله بجثته فقط في غياب تام للانخراط والتفاعل الإيجابيين . فيصبح العامل يقوم بالحد الأدنى من متطلبات العمل لكي لا يطرد فقط. هذه الظاهرة هي ما يسمى بالتقاعد الصامت quiet quitting.
عندما اهتم إيناموري بعمال شركته من الناحية المادية والمعنوية والنفسية، أصبحوا يملكون الشركة ولم يعودوا يفكرون إلا في مزيد من الأرباح والنجاحات ولم يعودوا يفكرون في التقاعد بعد أن أقنعهم بأن سر السعادة في العمل وليس في الراحة وتبذير الأموال في الملذات وأمور الحياة الترفيهية.
قد يلومنا البعض بأن هذه الفلسفة الإقتصادية هي بالضبط ما قام بها عراب النظام الأساسي الجديد الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في هذه الأيام. لكنني أروم هنا فلسفة الاعتناء بالموارد البشرية مع سطر تحتها. فأنا وجدت الحكمة فنحن أولى بها.
إن سر النجاح هو الاعتناء بالإنسان. فهو صانع النجاح أو هو سبب الفشل الأول في أي إصلاح.
لا يمكن لرجل التعليم في بلدنا أن يصنع الأجيال وهو لا يزال يتصارع مع ضروريات الحياة اليومية التي تعتبر في الدول التي فهمت قيمة الانسان بديهيات لا تستغل حيزا كبيرا من تفكير العامل. لا يمكن لموظف يعيش العوز في أبهى تجلياته أن يعطي ما لديه من طاقات لمهنته النبيلة في بناء الأجيال. فعقله مشغول بتغطية تكاليف الحياة وحياته في دوامة لا تتوقف أبدا.
سمعت أحد القامات الفكرية التي أحترمها يتحدث عن أزمة التعلبم في بلادنا يقول بأن الجيل الأول الذي دخل هذه المهنة كانوا يؤمنون بها لكن اليوم ولج هذه المهنة أناس لا يؤمنون بها إنما اضرتهم ظروف الحياة لذلك – الخبزة-
لا أعتقد ذلك سيدي مع احتراماتي لك.
الوظيفة على العموم لا يلجها إلا المضطرون بما أن الآفاق محدودة واقتصاد البلد هش وريعي و عائلي على العموم.
الجيل الأول عاشوا رغد العيش النسبي في ذلك الوقت وكان وضعهم المادي والمعنوي جيدا في المجتمع. ويمكنكم مقارنة مستوى العيش بين ذلك الجيل وجيل اليوم الذي يلج مهنة التعليم لتجدوا أن الفارق كبير. فراتب المعلم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان بإمكانه شراء قطعة أرضية بينما راتب اليوم لا يمكنك من شراء ثلاجة.
أصبحت ظاهرة التقاعد الصامت تصيب الموظفين في سنواتهم الأولى من ولوج المهنة بسبب الظروف المعيشية الصعبة وغياب التحفيزات.
التقاعد الصامت في حالته الطبيعية لا يكون إلا في السنوات القليلة قبل التقاعد حيث يصل الموظف إلى مرحلة من الضغط النفسي الرهيب مع وصوله إلى الدرجة والرتبة القصوى من راتبه والتي ليس بعدها أي تحفيز مادي وبعد بلوغه الإنهاك burnout بسبب مشاكل التعليم وهمومه.
وجدوا في الولايات المتحدة أن كثيرا من نساء ورجال التعليم يصلون إلى مرحلة التقاعد الصامت quiet quitting بسبب ضغوطات المهنة رغم رغد العيش الذي يعيشونه في دولة متطورة كدولتهم. رجل التعليم هو الذي يحمل هموم عمله داخل وخارج مكان عمله. فهو الذي يشتغل عقله 24 ساعة على 24. 7 أيام على 7. و 12 شهرا على 12. وليس ذلك إلا لأنهم يشتغلون مع إنسان بكل تعقيداته وليس آلة جافة فارغة من أي مشاعر.
في بلدنا العزيز يعيش نساء ورجال التعليم وموظفو الدولة بشكل عام مع بعض التباينات حالة الجمود الاجتماعي مع التكاليف المتزايدة للحياة اليومية. ويبقى هاجس المرتب الذي يستنفذ في الأيام الأولى من الشهر كابوسا يقض المضاجع ويغم بال الموظفين ويدفع الكثيرين إلى سلك سبل الرشاوى والاختلاس والاحتيال. أو البحث عن مصادر أخرى لتحسين وضعهم المادي كالدروس الخصوصية النهارية والليلية.
لو كان الموظف مرتاحا عزيزا مكرما من الناحية المادية لما سلك هذه الطرق وغيرها. ولما بحث عن السبل الشرعية وغير الشرعية ليحسن وضعه. ولما وصل الحال بكثير منهم إلى وضع حد لحياته بسبب تراكم الديون وارتفاع متطلبات الحياة. أعرف مدير مدرسة انتحر في السنوات الأخيرة بسبب الوضع المادي الذي كان يمر به. ولم يسلم من هذه الظاهرة حتى أئمة المساجد والمتدينون للأسف. رحمهم الله جميعا فهو من خلقهم وهو أرحم الراحمين. فليس هذا موضوعي هنا.
لو كان رجل التعليم معززا مكرما محصنا بالتشريعات التي تضمن قيمته وكرامته وسط مجتمعه، لما وصل حالنا إلى وضع تعليمي هش يحتل المراتب الأخيرة في ترتيب الجودة العالمي. ولما وصلنا إلى تحقير هذه الفئة في مجتمعنا وضرب الأمثال القدحية بها. ولما وصل الحال ببعض الناس في وطننا إلى نعتك بالمسكين حين يعرف أنك رجل تعليم.
دائما أستحضر قولة المستشارة الألمانية السابقة لما طالبها القضاة بالزيادة في أجورهم لتتساوى مع أجور نساء ورجال التعليم : »هل تريدون أن أسويكم مع من درسكم!!؟ »
إنها الدولة التي عرفت فضل نساء ورجال التعليم في تطوير المجتمع حتى أن زعيمهم القديم كان يعفيهم من الخدمة العسكرية لكي لا يتأذوا ولكي تبقى الفئة التي تبني المجتمع إذا حدث أي انتكاس عسكري أو مكروه من بعدهم.
لا يعقل أن نكون كرماء وغاية في السخاء مع قطاعات في الدولة وبخلاء مع الطبقة التي تبني وتخرج الأطر والأدمغة التي تسير هذه الدولة. لا يمكن أن تتطور البلاد دون نساء ورجال التعليم.
ورغم كل ما ذكرته في مقالي المتواضع، فأنا من دعاة التفاؤل والأمل. ولا يزال مجتمعنا بخير ولا يزال في هذه الأمة نساء ورجال يحملون هم هذه الأمانة ويعملون بجد وإخلاص ليخرجوا الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم ويبذلون ما في وسعهم ليساهموا في بناء مجد أمتهم ووطنهم ويرابطون كما يرابط الجنود على الثغور لحماية أمن وطننا العزيز.
فإذا أعطيتموهم فأغنوا و أغدقوا واكفوا.
وإذا أردتم البيض فاعتنوا بمن كان سببا في إيجاده.
ذ. محمود بودور
وجدة في : 6/12/2023
Aucun commentaire