أكل هذا » وليمة لأعشاب البحر »؟
رمضان مصباح
59 في المائة من التلاميذ « المغاربة » لا يتحكمون في كفايات الحد الأدنى من مستويات الأداء في القراءة.
في اقتصاديات التربية،هذا يعني أن59 في المائة من المال العام، المستثمر في التعليم : أجورا،بناياتٍ ،تجهيزاتٍ ؛إضافة طبعا إلى الإنفاق الأسري التربوي؛ تحَيَّفَها نهرُ أبي رقراق ،ضمن أنهار أخرى،وانتهت في بحر الفشل « وليمة لأعشاب البحر ».
وحينما نضيف إلى هدر المال العام والخاص،الزمنَ المدرسي الضائع ،في عصر « النانو » والذكاء قاتل الذكاء البشري؛ترتسم المأساةُ جليةَ الهول أمام أنظارنا ؛تسائلنا :
أين الخلل؟
قبل الإدلاء ببعض عناصر الإجابة ،ليس إلا؛لأن « قيمة » النفور من الكتاب والمكتوب ، أضحت اليوم عروس قِيَّمنا ،من المهد إلى اللحد؛أستعيد ،للاعتبار،مستهل ستينيات القرن الماضي ،حيث العودُ طري ،والذهن فتي متوثب وتائه في دروب فاس العلم والعلماء.
سمعناها في وجدة ،حيث أنهينا تعليمنا الإعدادي الأصيل ،وأزفت ساعة الرحيل إلى عاصمة المولى إدريس ،لاستكمال هذا الذي ستصبح تسميته العلم ،وما أدراك ما العلم؟.
رُدِّدت على مسامعنا حتى عظم التهيبُ في نفوسنا من هؤلاء العلماء :
من يكونون ؟وكيف هم هيئة؟ وكيف سننهار في حضرتهم ،نحن الصغار الضعفاء المتخرجون على يد مجرد معلمين وأساتذة مغاربة ومشارقة ؟
هي هذه الخلفية،أما الصورة وقتها في فاس ذلكم الزمان – ليس فاس الحرب الثلاثية الفرقاء اليوم:المجرمون واللصوص من جهة ،والمواطنون والأمن من جهة أخرى- ففيها فعلا علماء أجلاء ،رحم الله:
الحديقة،الداوديان عبد الكريم وعبد الله،عبد القادر الشركي،اخبيزة ،الزرواليان ،السميرس ،الشاعر مولاي أمحمد ،وغيرهم.
ولم تكن تسري ،بعد حصص العلم ،الخَطابي التقليدي ،غير الأحاديث والهمهمات المكملة:
أخبار سباق خزانات العلماء الشخصية والتباهي بها :
فلان صاحب خزانة بألف كتاب ،وفلان جمَّاعة مخطوطاتٍ لا يُجارى؛وفلان ابتاع خزانة كاملة من سوق الدلالة،أو باعها..
ذاك قضى أسابيع في تفسير البسملة ،وآخر من العلماء الفصحاء؛قيل له انك شبيه محمد الخامس،رحمه الله،فكانت إجابته صارمة ،لاشية هزل فيها:
يشبهني وأفوقه علما.
لم نكن زمانئذ نتحدث في غير هذا ،مع بعض متع الخرجات الأسبوعية من القسم الداخلي،وخرائطها في فاس القديمة،حيث -خلافا لكل المدن – لم يمت شيء من ماضيها ولا ألوانها ولا روائحها .
الجديد فيها نحن تلاميذ وجدة؛نتناثر بين أزقتها الضيقة، كنقط وفواصل في مخطوط قديم.
فتش عن البيئة الحاضنة:
لم نكن من بيوتات علم ،وكل ما رسخته الأسر فينا هو أن نختزل حياتنا كلها في الحصول على الوظيفة،مهما تكن.
من أين حبُّ الكتب والقراءة والكتابة ؟من أين صرف العمر كله ،فيهما ؛ورجاء أن أموت قارئا كاتبا.
كيف لي أن أقف بسوق الدلالة الأربعائي الشهير ،بمصروف جيب لايتجاوز دريهماتٍ،لأشتري العدد الأول من سلسلة لسان العرب-الطبعة الأولى البسيطة-وأنصرف مزهوا أقفز عبر الطالعة الكبرى كغزال؟
من أين لي أن أستدين درهمين لاقتناء كتاب عن شكسبير،وفي الأخير أعجز عن السداد فأرجع الكتاب للبائع المتنقل :لحجوجي،رحمه الله؟
فتش في كل هذا عن الحاضنة المؤسسية.
ولو متخلفة ،من حيث المنهج والمضامين المعرفية،ورغم فقرنا المادي والمعرفي،استطاعت أن تزرع فينا قيمة العلم تاجا ،يجعل لصاحبه –كما أسلفت –مكانة لا تقل عن مكان السلطان.
حتى ونحن في وجدة،برحاب معهد التعليم الأصيل ؛عشنا تجربة المؤسستين في واحدة: كنت موزعا بين الفصول الدراسية ،وخزانة الشريف الإدريسي ؛القلب النابض فيها.
أقبلت نهِما على كتب كانت تفوق مستواي ؛بل أحيانا كانت تنتزع مني انتزاعا وتعاد إلى الرفوف:مالك يارمضان و »الرأسمالية أساس الاستعمار » ل « لنين »؟
رويت لأطفال الحي سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن قبل الإذاعة المغربية.
من أين كل هذا الحب للقراءة ؟
صالة مفروشة أم خزانة عامرة؟
وهل يُطرح هذا السؤال ،أصلا، اليوم؟
حتى وزيرنا الأول السابق اختار أن يتحدث عن تجهيز الصالون أولا.
من أين للأطفال أن يرضعوا قيمة القراءة،من أثداء أمهاتهم ،وهم لايرونهن –غالبا-،لاقارئات،ولا محبات كتب ،ولا حاثات عليها.
نعم أرضِعوا حب الهواتف واللوحات ؛للفرجة فقط،وليس العلم الرقمي.
إحدى الأمهات ،وقد كانت زوجة رجل تعليم ،جعلت من مجلدات زوجها موضوعا لنقاش دائم: مالنا وهذه العساكر التي احتلت المنزل كله؟
إن أولى مراقي حل معضلة اللاقراءة في وطننا هندسها المنطق الذي بنى الأمم والحضارات،في المنزل وفي كنف الأسرة.
لا يمكن للطفل ألا يحب مالم تحبه أمه ،ثم أبوه.
نتحدث عن لغة الأم ونغفل عن كتب الأم؛ ننتحدث عن ثدي الأمومة ونغفل إرضاع المعلومة.
في الزيجات والمهور والأفراح ،والعلاقات مع الجيران والأقارب ،لا حضور – إطلاقا –للكتاب .
وفي ملفات المحاكم ما تخاصم الأزواج ،ولا الناس عموما ،حول تَمَلَّك الكتب .
بل الأدهى أن بعض الفهم الأعوج يرفع من قيمة الأمية ،لورودها صفة للرسول صلى الله عليه وسلم.
من سيُعلي لبنات البيئة القرائية في نفوس الأطفال ؟ الملائكة مثلا ؟أم الشياطين ؛مادام بعض العلم مشيطن؟
ومن توابل هذه البيئة الفقيرة جدا تربويا ومعرفيا ،إحلال البدائل التافهة ،البراقة والجاذبة:
قَصَّة نايمار أو لا أدري من ،تسريحة كذا .ثم هذه البدائل الوسائطية الوبائية ،التي احتلت كل المساحات ،وغدا أصحابها –بعد الثراء-فاعلين في تربية المجتمع ،مشهودا لهم رسميا بذلك.
وهُجرت المعارف ،والفنون الجادة؛متروكة لأهلها ،يتجاذبون حولها أحاديث الهزيمة ،في جلسات يعد فيها الحضور بأصابع اليد.
ومؤسساتنا التعليمية التي لا تقرأ:
يتبع
Aucun commentaire