مستقبل لغتنا العربية من مستقبل أبنائنا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
مستقبل لغتنا العربية من مستقبل أبنائنا
بحكم الطبيعة البشرية، تختلف نظرة الناس وتعاملهم مع المناسبات والأحداث التي يصادفونها في حياتهم اليومية، ويُعتبَر اليوم العالمي للغة العربية الذي مر بنا قبل أيام حدثا من بين الأحداث التي يختلف الناس في تعاملهم معها، فتجد فيهم من لا يعيره أي اهتمام وما أكثرهم، في نفس الوقت الذي يحرص فيه آخرون على الاحتفاء به من خلال أنشطة يعتقدون أنها تتناسب والأهداف المتوخاة من عملية الاحتفاء، مع العلم أن أثرها في الواقع العملي يختلف من نشاط لآخر، فليس من يكتب موضوعا في جريدة مغمورة، كمن يستغل وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات ذات الصيت الذائع، ولا كالأنشطة التي تقوم بها منظمات أممية كاليونسكو مثلا، ثم إن كيفية تناوُلِ الموضوع تختلف من متدخل لآخر، فمنهم من يُعيد سرد مجموعة من المعطيات التي لا تعالج الواقع أكثر مما تحاول التنفيس عن النفس، ومنهم من يستغل الفرصة لخدمة القيم والثقافة الغربية، وذلك في مقابل بروز بعض الأنشطة العملية التي تهدف إلى الفعل لصالح اللغة العربية في الواقع، وفي هذا الصدد استوقفني حدثان بارزان، أحدهما يتمثل في حلقة يوم الأحد 25 دجنبر 2022 من برنامج ديكربطات التي دُعي لها الدكتور أحمد شحلان، والثاني يتعلق بالنشاط الذي نظمه نادي الثقافة والفن بثانوية المسيرة الخضراء بتاريخ 28 دجنبر 2022 والذي دُعي له الأستاذ محمد شركي باعتباره مختصا في اللغة العربية. وقد تم افتتاح النشاط بآيات بينات من الذكر الحكيم رتلتها إحدى التلميذات على الوجه المطلوب، وبإلقاء متميز لتلميذة أخرى لقصيدة « اللغةُ العربيةُ تَنعَى حظَّها بين أهلِها » لحافظ إبراهيم، لِتُعطَى الكلمة بعد ذلك للأستاذ شركي الذي قدم عرضا عرج فيه على أصول اللغة العربية، وعلاقتها الجدلية بالإسلام، ثم أهميتها التاريخية في نشرها للعلم، وصولا إلى المرحلة الحالية التي أصبح يميزها نوع من الاستخفاف بها وبقواعدها قد يصل في بعض الحالات إلى حد الاستهزاء بمن يحاول التعبير بها، مقابل الاهتمام المبالغ فيه باللغات الأجنبية، مؤكدا على أن ذلك راجع إلى عقدة النقص التي عمل الاستعمار في الماضي ولا زال يعمل بكل ما أوتي من قوة على زرعها فينا.
قبل أيام كتَبتُ مقالا عبَّرتُ فيه عن تذمري من النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها بعض الأنشطة المقامة بهذه المناسبة، لكونها تتأرجح بين استغلال الفرصة لخدمة الثقافة والقيم الغربية من خلال تمرير مصطلحات ومفاهيم تلفظها القيم والثقافة العربية الإسلامية، وبين اعتماد خطابات ظاهرُها الإشادة باللغة العربية ومنجزاتها التاريخية، وباطِنُها لا يخدُم العربية في شيء، غير أن النشاطين المشار إليهما أعلاه كانا بمثابة عامل للتقليل من حدة التذمر والرفع من منسوب الأمل لدي، لكونهما يهدفان إلى خدمة العربية في الواقع العملي.
إن حلقة يوم 25 دجنبر 2022 من برنامج ديكربطات تستحق التنويه والتقدير من حيث وزن الشخصية التي تمت دعوتها بالمناسبة، ومن حيث الحُرقة التي يتكلم بها مُعِدُّ البرنامج عندما يُلاحِظ كيف تتعامل الجهات الرسمية مع اللغة العربية في جميع المجالات خاصة في مجال التعليم. فدعوةُ قاماتٍ من صنف الأستاذ شحلان مِيزةٌ يتعين على مختلف البرامج الإعلامية التي تتوخى خدمة اللغة العربية الاقتداء بها لأنها تعطي للبرنامج قيمة ومصداقية لدى المشاهدين الذين لا يمكن لهم إلا الإحساس الصادق بأهميتها، ومن ثم ضرورة بذل المجهود اللازم لتعميم استعمالها وقطع الطريق أمام المحاربين لها. بقيت لي ملاحظة وهي أنه رغم أني لا أعلم الظروف التي وُلد فيها البرنامج ولا الحيثيات التي صاحبت تسميته، لكني أعتقد صادقا أن استبدال اسم « ديكربطاج Décryptage » باسم عربي سيكون أكثر انسجاما مع الحرقة التي يبديها الأستاذ عبد العزيز الرماني تجاه اللغة العربية، ويضفي مصداقية أكبر على البرنامج.
أما الندوة التي أطرها الأستاذ الشركي فإنها لا تقل أهمية عن حلقة ديكربطاج لأنها بَيَّنتْ بالملموس تهافت المقولة المكرورة التي تضرب على وتر ضعف المستوى الدراسي للتلاميذ، وهذا أمر قد يصح في حد ذاته، لكنه لا يعني بحال من الأحوال أنهم أغبياء وأنهم لا يفهمون كما يحلو لأولئك الذين يريدون أن يتبرؤوا من مسؤوليتهم في شأن ضعف مستوى بعض التلاميذ. إن ما عبروا عنه في تدخلاتهم، يُدين المسؤولين عن تربيتهم أكثر مما يدينهم، ذلك أنهم أبانوا عن قدرة كبيرة للتواصل بالعربية الفصحى، وعبروا عن إحساسهم بالتقصير في الاهتمام بها، وتساءلوا عن الأسباب التي أدت إلى تخلفها وطرق إعادة الاعتبار إليها. مما أدى بهم إلى التعبير عن استعدادهم للمشاركة في كل الأنشطة التي من شأنها أن تصقل قدراتهم اللغوية، ولا شك أن هذا الاستعداد يوجد لدى كثير من أبنائنا ولو بشكل كامن، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي ساهمت في التخفيف من حدة الاستلاب الفكري والانهزام النفسي أمام الحضارة الغربية، ومن بين أبرز هذه الأحداث إصرار لاعبي الفريق الوطني على التعبير باللغة العربية رغم ضعفهم فيها واستنكافهم عن التعبير باللغة الأجنبية على الرغم من إتقانهم لها، وهو ما استغله الأستاذ شركي لحثهم على استرجاع الثقة في أنفسهم وفي الثقافة العربية الإسلامية.
ختاما أقول إن مستقبل اللغة العربية من مسؤولية الجميع، ابتداء بصاحب المتجر الذي يُطلق على متجره اسما أجنبيا، مرورا بالاستعمال اليومي لها في الإدارات وفي البيوت، وانتهاء بالمؤسسة التربوية التي تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، بحيث يتعين التشجيع على التخاطب بها داخل الأقسام وفي الساحات وفي وسائل التواصل الاجتماعي وتجاوز الإحساس بالنقص عند استعمالها، وذلك من خلال رصد جوائز وحوافز للإنتاجات العربية، وإذا كان من غير الممكن القفز على الدور المحوري للجهات الرسمية في تدني مستوى اللغة العربية خاصة وزارتي التربية الوطنية والإعلام فإني أجزم بوجود هامش مهم على مستوى المؤسسات التربوية، بحيث يمكن للأساتذة وهيئة الإدارة التربوية بكل فئاتها أن تقوم بعمل مهم في هذا الجانب شريطة توفر الاستعداد والعزيمة ووضوح الرؤيا علما أن هذا الهامش مسنود بنصوص رسمية تقوم بالتغطية القانونية للأنشطة التي تعد لهذا الغرض.
الحسن جرودي
Aucun commentaire