مدونة الأسرة: الشجرة التي لا يمكن أن تغطي غابة العلمانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
مدونة الأسرة: الشجرة التي لا يمكن أن تغطي غابة العلمانية
لا أريد في هذا المقال مناقشة مدونة الأسرة، لأنني بكل بساطة لست أهلا لذلك، ومن ثم فلا يمكن لي إلا أن أسترشد بما يقوله المختصون في الموضوع. وقد سُررت عندما عثرت في إحدى الجرائد الإلكترونية الشائعة على مقال تحت عنوان « ندوة تضع مدونة الأسرة تحت مجهر ضوابط الإسلام وهوامش الاجتهاد » الهدف منها « الاستماع إلى آراء المختصين والمهتمين بالموضوع لمواكبة هذا الورش، والدفاع من داخل البرلمان عن الخطوات التي يمكن تبنيها لإصلاح المدونة » حسب تصريح المسؤول عن التنظيم الحزبي المعني بتنظيم الندوة، ظانا بأني سأجد في المقال ما يشفي غليلي، خاصة فيما يتعلق بالحسم في مفهوم الاجتهاد الذي أصبح مجالا للمساومة، وبوابة خلفية للاختراق التدريجي للمفاهيم الشرعية واستبدالها بالمفاهيم المسماة كونية، إلا أنني عندما اطلعت على صفات بعض المشاركين في الندوة تبين لي أن هناك إشكال أولي، يتمثل في مدلول هذا المختص الذي يتعين عليه إتقان استعمال « مجهر ضوابط الإسلام والهوامش التي يتيحها الاجتهاد » للنظر في مدونة الأسرة، وتساءلت عما إذا كان يكفي أن تكون وزيرا للتضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة في حكومة سابقة، أو تكون عضوا في المكتب السياسي لحزب معين لتحوز صفة مختص، ذلك أنه من البديهيات المتعارف عليها أن تَدَخُّل المختص لا يكون إلا في إطار تخصصه الواضح المعالم والحدود، وفيما عدا ذلك فلا يعدو أن يكون تدخلا « عاديا » من حيث مضمونه المعرفي، مع العلم أن آثاره الجانبية على شخصية المتلقي غالبا ما تكون سلبية بسبب الهالة التي تُعطى لصفة المختص، والتي تخلق لديه نوعا من الإعاقة يصعب معها نقد الأفكار التي يُدلي بها « المختص » وتحليلها تحليلا موضوعيا، خاصة من قِبَل العامة الذين غالبا ما يكونون هم المستهدفون من قبل هؤلاء « المختصين ».
وحتى لا يَعتقِد القارء أنني أتحامل في الحكم على مدى ملاءمة صفة المختص لإحدى المشاركات، أقوم بعرض فقرة من مضمون مداخلتها التي أكَّدَت فيها كما ورد في المقال على أن » ورش إصلاح مدونة الأسرة مطلب مجتمعي أساسي بغية حماية الأسرة وتطويرها في ظل واقع تجاوز المرجعية القانونية المؤطرة للمدونة بصيغتها الحالية »، وأن « مثل هذه الملفات الكبرى ذات الحساسية ينبغي جعلها خارج كل الحسابات الأيديولوجية والسياسيوية الضيقة، وفتح حوار مجتمعي موسع حولها لتفادي التجارب السابقة التي كادت تقسم المجتمع لولا المبادرة الملكية » وأن « نجاح هذا الحوار المجتمعي والمؤسساتي رهين بنبذ كل أشكال التطرف أيا كانت فلسفتها، والانتصار الجماعي لقيم الوسطية والاعتدال، ومعانقة قيم الحداثة المنسجمة مع الأصالة المغربية وأصول الشريعة، واستحضار الجوانب الإيجابية للمنظومة العُرفية المواكبة لمتطلبات العصر، التي تجاوزت القانون الوضعي في عدة مجالات حقوقية واجتماعية وثقافية ».
رغم إعادتي قراءة المقال بصفة عامة عدة مرات، وهذه الفقرة على وجه الخصوص، لم أجد بصمة ولا أثرا للمختص، وإنما كلاما عاما ينم عن التطبيع مع العلمانية، دون امتلاك الجرأة الكافية للتصريح به، إذ ماذا يمكن أن يُقصد ب « تجاوز المرجعية القانونية المؤطرة للمدونة بصيغتها الحالية » سوى الاستغناء عن المرجعية الإسلامية، وماذا يمكن أن يُفهم من « فتح حوار مجتمعي موسع » سوى إشراك عامة الناس الذين يفتقرون للمؤهلات العلمية لمناقشة مثل هذه المواضيع، ليُفسح المجال للتأثير عليهم من خلال دغدغة مشاعرهم واستدراجهم لمساندة وتبني آراءَ غالبا ما تكون في غير صالحهم، كما هو الحال بالنسبة لتلك الانتخابات التي تُجرى تحت شعار الديموقراطية، والتي بمجرد أن يُقضى منها الوطر، تطفو نتائجها ومآلاتها الكارثية على السطح كما لا يخفى على أحد. إذا كان لا بد من تعميق النظر في مثل هذه المواضيع، فينبغي أن يكون في إطار المرجعية الدينية والثقافية للمجتمع، وبما أننا أمة مسلمة بنص الدستور، فإن الكلمة الفصل ترجع للمختصين في العلوم الشرعية مع الاسترشاد عند الحاجة ببعض المختصين في العلوم المختلفة كالطب والاجتماع وغيرها من العلوم التي تدعو الضرورة إليها دون التعارض مع المُحكم والمعلوم بالضرورة من الدين.
ثم إذا اعتبرنا تجاوزا أن هذا الكلام صادر عن مختص، فكيف لقيم الحداثة، التي يُقصد بها القيم الغربية أو ما يسمونه بالقيم الكونية أن تنسجم مع الأصالة المغربية وأصول الشريعة؟ ثم ما هي هذه الجوانب الإيجابية للمنظومة العُرفية المواكبة لمتطلبات العصر التي تجاوزت القانون الوضعي في مجالات حقوقية واجتماعية وثقافية إن لم تكن سوى الرضائية وعدم تجريم الإجهاض والتناول العلني للخمور…
في الختام أقول لهؤلاء وأمثالهم من الذين يعتمدون أسلوب المراوغة والاحتيال بانتحال صفة العلم والاختصاص لاستغباء الشعوب من أجل قضاء مآربهم، أن اعتماد مدونة الأسرة في دور الشجرة التي يراد لها أن تغطي غابة العلمانية ليست مضمونة العواقب، ولن تكون مع مرور الزمن في صالحهم حتى وإن استطاعوا أن يستحوذوا على عقول مجموعة من الأغرار، لأن التجربة بينت أن ذلك لن يدوم طويلا، لكون حبل الكذب قصير كما يقال، ولأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه مصداقا لقوله تعالى في الآية 18 من سورة الأنبياء « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ » صدق الله العظيم
Aucun commentaire