إلى أي مدى تنسجم وظيفة منظمة حقوق الإنسان مع نعتها بالمغربية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
إلى أي مدى تنسجم وظيفة منظمة حقوق الإنسان مع نَعتِها بالمغربية؟
من المفاهيم المتفق عليها من حيث المبدأ لدى جميع الأمم على اختلاف أجناسها وثقافاتها، مفهوم حقوق الإنسان، إلا أن تنزيلها على أرض الواقع يختلف من أمة لأخرى بحسب مرجعيتها وثقافتها، وهو الأمر الذي لا يعترف به العلمانيون عندنا بحيث يعتبرون أن الرؤية المستوردة لها هي الرؤيا الوحيدة التي على الجميع أن يَخضع لها على شاكلة فرعون حينما صرح أن لا رأي إلا ما يرى، كما ورد في الآية 29 من سورة غافر « قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ». والغريب أنهم يسلكون طرقا ملتوية تتنافى في عديد من الحالات حتى مع مفهوم حقوق الإنسان في إطار العلمانية نفسها، ذلك أن حرية المعتقد على سبيل المثال تعني ممارسة الفرد معتقده انطلاقا من مرجعيته لا خارجها، ويحضرني في هذا السياق حق من حقوق المسلم كما تم التنصيص عليه في « البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام » الصادر سنة 1981 والمعبر عنه بالصيغة التالية: « ليس لأحد أن يُلزم مسلما بأن يطيع أمرا يخالف الشريعة، وعلى الفرد المسلم أن يقول: « لا » في وجه من يأمره بمعصية، أيا كان الأمر، وهنا أتساءل كيف لهذا الحق أن يستمر في الوجود وهم يلوِّحون بعصا ما يسمونه المواثيق الدولية لمحاربة كل الحقوق ذات الصلة بالإسلام من مثل الحق في الإرث، الحق في العفة وعدم الترويج للزنا، الحق في برامج تعليمية تركز على إكساب المتعلم بالأساس لغة عربية متقنة وثقافة دينية متكاملة، بالإضافة إلى لغات أخرى ذات المنفعة العلمية والعملية…
الدافع وراء هذا المقال هو المقال الذي نُشر بإحدى الجرائد إلكترونية الذائعة الصيت تحت عنوان: « الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تنتقد » التعريب القسري » للأمازيغ عبر التاريخ » ومما ورد في المقال ما يلي: « المغرب يُعتبر، في الأدبيات الأممية لحقوق الإنسان، واحدا من أهم البلدان التسعين في العالم التي تتميز بوجود شعب أصلي »، وتابعت: « الشعب الأمازيغي عبر التاريخ، وعلى طول مساحة شمال إفريقيا، عرف تهافت القوى الاستعمارية على أراضيه واستغلال ثرواته وتفكيك بنياته الاجتماعية والاقتصادية، بكل الوسائل المدمرة للإنسان والطبيعة؛ كما هو حال ما عاشته بعض المناطق من استهداف بالأسلحة الكيماوية المحظورة دوليا، وخاصة في الريف المغربي ». وواصلت الهيئة ذاتها: « هذا لا يمثل سوى الجزء الظاهر من محاولة التدمير الشامل التي عاشها السكان الأصليون، في خرق سافر لكل الأعراف والقوانين الدولية والقيم الإنسانية النبيلة، إضافة إلى ما تعرض له السكان الأمازيغ بالمغرب من تعريب قسري، وإقصاء للغة والثقافة الأمازيغيتين، وتهجير واستغلال لثرواتهم الطبيعية ».
يفهم من هذا الجزء من المقال أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تساوي بين تهافت القوى الاستعمارية على المغرب وأراضيه واستغلال ثرواته وتفكيك بنياته الاجتماعية والاقتصادية، وبين ما أسماه بالتعريب القسري للسكان الأمازيغ. ألا يُعد هذا النوع من المقارنة سيرا على نهج المستعمر في تفكيك البنيات الاجتماعية والاقتصادية التي يعمل الاستعمار الحديث على تنفيذها عن طريق طابورها الخامس؟ إذ كيف يمكن أن يوضع التعريب الذي تبناه الأمازيغ عن طواعية، لا لشيء سوى أنه فتح لهم باب فهم الدين الإسلامي الذي لولاه لما سطعت حضارة المغرب على الأندلس، قلت كيف يمكن أن يوضع هذا في نفس الخانة مع الاستعمار الذي لم يقبله لا العرب ولا الأمازيغ. والأمر المستفز حقا في هذا المقال هو الضرب على وتر التفرقة وإشعال الفتنة بين العرب والأمازيغ. ثم أيكفي أن يرد في الأدبيات الأممية لحقوق الإنسان بأن المغرب يتميز بوجود شعب أصلي ليتم تلقف هذا المفهوم الهجين الذي إن دل على شيء فإنما يدل على تمييز عنصري لغوي واضح، هدفه الوحيد كشأن كل تمييز عنصري اختلاق الفتنة والتفرقة بين أفرد المجتمع الواحد، عكس ما سعى ويسعى إليه الإسلام الذي يعتبر التقوى معيارا وحيدا للتميز والفضل مصداقا لقوله تعالى: في الآية 13 من سورة الحجرات » يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: « أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى »، هذا مع العلم أنه علميا لا يمكن حصر أصل الشيء في حقبة معينة فعندما نصف الشعب الأمازيغي بالأصلي، يُخيل إلينا أن المغرب كان خلاء من كل البشر حتى نزل الأمازيغ من السماء أو من مجرة أخرى حاملين معهم اللغة الأمازيغية كما « أعدها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية »، ليأتي « العرب الهُمَّج الغزاة » ويُقيموا لهم محاكم التفتيش على شاكلة التي كانت في الأندلس، ويستأصلوهم، ويحرقوا كتبهم ويمنعوهم من ممارسة أي مظهر من مظاهر ثقافتهم… ، أيُعقل أن يسود هذا النوع من التفكير لدى أي مغربي كيفما كانت مكانته الاجتماعية وهو الذي لا يستطيع أن يُثبت نسبه إن كان عربيا أو أمازيغيا على السواء. أليس من الحكمة النظر إلى الموضوع من زاوية تمازج الثقافات واللغات من خلال النماذج الرائدة التي يزخر بها التاريخ الأصيل للمغرب وليس ذلك التاريخ الذي نتلقاه عن الغزاة والمستعمرين الذين لا يدخرون جهدا في محاربة كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وعلى رأسه اللغة العربية من خلال جعلها مرادفة للعرب، وهذا أمر قمة في النفاق والخداع، ذلك أنه إذا كان شأن العرب كشأن باقي الأجناس، فيهم الصالح والطالح، وفيهم الصادق والانتهازي و…، فإن اللغة العربية تُعتبر الوسيلة العملية الوحيدة التي مكنت المغاربة من فهم دينهم الذي لم يكن في يوم من الأيام ولن يكون أبدا عنصر تفرقة بل عنصر توحد وتعاضد، وفي هذا الصدد أعجبني الوصف الذي جاء على لسان تميم البرغوتي في إحدى فيديوهاته لألائك الذين يتنكرون للغتهم ويقرؤون تاريخهم بأعين الغرب حيث قال: « ألائك الذين يخجلون من لسانهم العربي ويزعمون أنهم فراعنة أو فينيقيون، وهم لم يعرفوا على الفراعنة والفينيقيين إلا ما عرَّفهم به غُزاتهم من الفرنسيس والإنجليز »
هذا من جهة، من جهة ثانية وانطلاقا من قاعدة مفهوم المخالفة، يتضح أن المطلوب هو محاربة اللغة العربية والقضاء عليها لكونها دخلت إلى المغرب قسرا، بينما لم يرد أي شيء عن اللغة الفرنسية التي تسيطر على مختلف مناحي الحياة المغربية بشكل غير قانوني وفي تحد واضح للدستور، وهنا أقول للناطق باسم المنظمة ردا على تساؤله عن كيفية تواصل طبيب يتحدث بالعربية والفرنسية مع مريض أمازيغي، كيف يتم التواصل بين المريض الأمازيغي أو العربي أو أي مريض كان عندما يتواجد في بلد لا يتكلم فيه الطبيب لغة المريض؟ ثم كيف يتواصل المواطن المغربي الذي لا يُتقن لا العربية ولا الفرنسية مع جل الوثائق الصادرة عن الإدارة المغربية وهي مكتوبة باللغة الفرنسية « الغير الرسمية »؟
بعد هذا أتساءل إن كانت المنظمة المغربية لحقوق الإنسان فعلا مغربية أم أنها غير ذلك، لكونها تطالب باحترام وحماية حقوق الإنسان كما هي معترف بها أمميا، حيث ورد في المقال المعني أن الجمعيةُ دعت الدولةَ في بيان “يوم الشعوب الأصلية” إلى “الالتزام بما تتم المصادقة عليه من الوثائق الأممية في مجال حقوق الإنسان، والعمل على تفعيل التوصيات الصادرة من مختلف المؤسسات الأممية ذات الصلة، باحترام وحماية حقوق الإنسان كما هي معترف بها أمميا، وكما جاءت في ديباجة الدستور، والنهوض بها”. ذلك أنه مما يَتبادر إلى الذهن مباشرة عندما تُنعت المنظمة بالمغربية، هو أنها تُدافع على حقوق المغاربة من منطلق خصوصياتهم العقيدية والثقافية، ومن ثم فعِوَض أن تستغل التناقض الذي يتضمنه الدستور بخصوص الجمع بين كون الإسلام دين الدولة وبين احترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، مع إعطاء الأولوية للقوانين الأممية على القوانين الوطنية في حال تعارضها، قلت عوض أن تستغل هذا في الانحياز للحقوق التي سطرها غيرنا، كان عليها أن ترفض ازدواجية الخطاب هذه، وتقف سدا ضد كل ما يمس باستقلالية القوانين الوطنية المستمدة من عقيدتنا وثقافتنا، لا من ثقافة أعدائنا الذين يتربصون بنا الدوائر.
وبغض النظر عن التوجهات التي تتحكم في برنامج عمل المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وحتى إذا اعتبرنا جدلا أن الأمازيغ قد تم تعريبهم قسرا، فماذا عن فرض اللغة الفرنسية في البلدان الإفريقية، وعلى رأسها المغرب، وحتى في فرنسا نفسها من خلال المرسوم الصادر سنة 1794 الذي اعتبر اللغة الفرنسية لغة وحيدة للإدارة بأكملها، ومن خلاله القضاء على كل اللهجات التي كانت موجودة إلى عهد قريب، بل وماذا عن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتاريخ 07 فبراير 2018 الذي رفض فيه رفضا قاطعا الحقوق اللغوية لأهالي كورسيكا عندما صرح بمِلإ فيه أن « اللغة الرسمية الوحيدة في فرنسا هي اللغة الفرنسية فقط »، ثم ماذا عن فرض اللغة الإنجليزية بأمريكا التي حلت محل اللغات الأصلية باستئصال السكان الأصليين ولغتهم على حد سواء، ونفس الشيء يقال عن كندا وكيفية حلول الفرنسية والإنجليزية فيها…أليس من الإنصاف أن نطالب منظروا هذه الحقوق بتطبيقها في بلدانهم قبل أن نطالب بالحقوق اللغوية الأمازيغية للمغاربة على حساب الحقوق اللغوية العربية التي أصبح يُعبث بها عن طريق التدريج والفرنسة، أم نريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك كما يقول المثل.
ختاما ألا يعتبر الركوب على حقوق الإنسان لتبني مطلب القضاء على اللغة العربية وإحلال الأمازيغية محلها مع الإبقاء على الفرنسية من دواعي الفتنة التي لن يستفيد منها لا العرب ولا الأمازيغ، وإنما المستفيد الأول هو الغرب الذي يسن المبادئ والقوانين ليفرضها فرضا على الآخرين على اعتبار أنها كونية وأنَّا لها أن تكون كذلك مع أنه لا يلتزم بها إذا كانت مصلحته تقتضي غير ذلك، وما عدم تصديق الولايات المتحدة على اتفاقية حقوق الطفل إلا تجسيدا لما أقول.
الحسن جرودي
Aucun commentaire