ذِكريات عَشيَّة قبل أوّل يوم في المدرسة
ذِكريات عَشيَّة قبل أوّل يوم في المدرسة – حميد وشاني
كان يمشي وهو يجر كهولته .هدَّه التعب . جلس ليستريح تحت شجرة التين الوارفة الظلال المتشابكة الفروع. امتدّ على ظهره و توسّد همومه. جيبه المنهوك ضاق ذرعا بالمصاريف المتتالية. عيد الأضحى ، العطلة ، الدخول المدرسي …
ركب قطار الذكريات بعيدا عن متاعب الحياة وهوس الانتخابات وصخبها، سافر عبر أزمنة مختلفة، رأى الماضي يجري فتوقف عند بلوغه سن المدرسة.
ذات عشية من نهارات الخريف لم تدعه أمه يغادر المنزل.سخّنت قدرين ومقراجا (1) أسود على نار الحطب ثم ذهبت لتُحضر الجَفنة (2) . حملت ولدها الصغير ثم وضغته داخلها بعد أن خلعت ملابسه دون رفق. صبّت عليه دلو ماء فاتر وتركته قليلا ليترطب. استفسرها إن كان سيأتي عندهم ضيوف أم سيذهبون لزيارة أحد الأقارب لأنها عادة ما كانت تفعل ذلك في مثل تلك المناسبات. كان جوابها نفيا .أوضحت له أنها ستذهب به إلى الليكول.(3)
رغم أنه لم يبلغ تماما سن المدرسة فأمه كانت تُنفذ تعليمات شقيقها الذي يشتغل في ميدان التعليم. كان قدأخبرها بأن موعد الدراسة قد حان وعليها أن تصطحبه إلى المدرسة.
حمد الله كثيرا أنها لم تذهب به إلى الحمام .فأشد ما كان يمقته هو ذلك الفضاء الضبابي اللعين الذي يغشاه .حرارته لم يكن يطيقها ؛ تُضايقه ويشعر بالاختناق داخل جدرانه الندية. كم مرة حاول أن يلوذ الى الغرفة الباردة ليسترجع الأنفاس من جحيم سخونة لم يحتملها، لكن أمه سرعان ما تتلقفه وتعود به من حيث أتى غير آبهة بتوسلاته بأن تتركه حيث يشاء، فيذعن لمشيئتها وينصاع على مضض.
أما الآن فهو على الأقل في جفنة، الجفنة داخل البيت، والبيت في الحوش، وهذا أهون مئة مرة وأرحم من الحمام اللعين.
أمرته أمه أن يمد لها يديه لتحكهما، بعد ذلك حَكّت بطنه وذراعيه ومن بعدهما الساقين ثم جاء الدور على الظهر.
أحس الطفل ببعض الألم من أثر الحك المتواصل، فقد كانت أمه تستعمل لهذه الغاية حجارة تنتقيها من الوادي وِفق مقاييس معينة متعارف عليها تراعي الحجم والشكل ودرجة الخشونة والفعالية. لم تأبه بصراخه بل استكثرت عليه ذلك ونهرته قائلة: « شوف گاع هاذ لوسخ فيك وتزيد تهدر! »
بقي يتألم في صمت وهو يتلقى التقريع على القذارة. ما إن فرغت من غسل كافة أعضاء جسمه ولم يبق سوى الرأس حتى أخذت خليطا من مسحوق أومو والغاسول وبدأت تغسل شعره مستعملة مشطا عاجيا مستطيل الشكل تساعد أسنانه الرقيقة على القبض على الصِئْبان. لما انتهت صبت عليه طاسات من الماء فأحس بالانتعاش وطالبها بالمزيد.
ألبست ابنها ثم هيأت له فطيرا محشوا بالشحمة الغاوية(4)أخرجته ساخنا من الفرن الطيني مع براد شاي وطلبت منه أن يأكل حتى لا يجوع. بينما انهمكت هي في خياطة ثوب من الصوف كمحفظة يضع فيها لوازمه وكل ما يحتاجه.
بينما هو يأكل سمعها تهلل وتنشد بصوت شجي « …اتْبكّي الشجْرة واتْبكّي الحجْرة، الله يا الله… »
رغم انه لا يعرف من هي تلك التي تُبكي الشجر والحجر إلا أنه كان يُدرك رغم صغر سنه أنها تشبه أمه. فأحزان فُطَينة كانت كافية لو وُضعت على جبل لأثقلته، لكنها كانت دائما تقف بثبات مثل التينة الضخمة لا تنهار، تمتص غصتها وتنحني لضربات ذوي القربى.
في تلك الأثناء التي كان حامد يتضور فضولا لرؤية المدرسة، توقف قطار الذكريات أمام بابها حين تركته أمه وحيدا يواجه مصيرا مجهولا…
—————
(1) مقراج: بُقْراج ،وِعاءٌ مِنْ مَعْدِنٍ لَهُ عُرْوَةٌ وَبُلْبُلٌ يُسْتَخْدَمُ لِتَسْخينِ الماءِ (قاموس المعاني)
(2) جفنة: قَصْعَة كَبِيرَة (قاموس المعاني)
(3)الليكول: تحريف لكلمة école بالفرنسية .
(4)الشحمة الغاوية : شحم الخروف المملح والملفوف يُنشر على حبل ليُجفّف في الشمس ويُحتفظ به لاستهلاكه وقت الحاجة.
Aucun commentaire